المانجروف: جندي مجهول في الحرب العالمية، وفي المستقبل منقذ للبشرية
كتبت: مها طــه
خلال الحرب العالمية الثانية، استولى الجيش الياباني على جزيرة رامري (قرب ساحل بورما). الجزيرة دي كانت ليها أهمية استراتيجية كبيرة عند قوات الحلفاء واللي هجمت على الجزيرة لاستعادتها. بعد حملة دامية، قدرت القوات البريطانية إنها تجبر حوالي 1000 جندي ياباني على الانسحاب من الجزيرة، والدخول في مستنقع شجر المانجروف الكثيف اللي بتطل عليه الجزيرة.
الجنود اليابانيين معروف عنهم عدم الاستسلام، وبالتالي رفضوا كل النداءات من البريطانيين، ودخلوا أكتر في المستنقعات لكنهم مكانوش عارفين المصيبة اللي مستنياهم! غابات المانجروف الموجودة في المستنقع دي تعتبر بيئة مفضلة لتماسيح البحر المالح، واللي بتعتبر واحدة من أشرس الزواحف المفترسة في العالم، ونتيجة لإزعاجهم، دفع الجنود اليابانيين التمن غالي لدرجة إن الألف جندي نجا منهم 520 بس، معظمهم خرج بإصابات خطيرة جدًا وتشوهات عنيفة.
شجر المانجروف اللي استوطنته التماسيح وحارب مع الحلفاء في الحرب العالمية التانية سنة 1945، هو نفسه اللي قادر إنه يحمي الكوكب كله. ونظرًا لدوره المهم ولوجوده في عدد من محميات سيناء، تم اختياره كواحد من الرموز المعبرة عن مصر في شعار مؤتمر الأمم المتحدة للتنوع البيولوجي اللي أقيم في مصر في نوفمبر الماضي.
اعرف أكتر| التنوع البيولوجي: “كلنا متصلين في دايرة الحياة الكبيرة”
إيه هو شجر المانجروف؟
المانجروف هي مجموعة من الأشجار والشجيرات اللي بتنمو وتزدهر في البيئات المالحة والتربة قليلة الأكسجين، والنظم البيئية اللي بتكون موجودة فيها تعتبر من أكتر البيئات أهمية وانتاجية في العالم. وعلى الرغم من أهمية أشجار المانجروف وانتشار حوالي 80 نوع منها على مستوى العالم، اتنين منهم في مصر، إلا إنها واحدة من أكتر النظم البيئية تعرضًا للانتهاك في العالم.
كشفت دراسة قامت بيها منظمة الغذاء والزراعة (FAO) التابعة للأمم المتحدة في 2010، إن حوالي 20% من أعداد أشجار المانجروف فُقدت من سنة 1980 ولحد وقتها، وطبعًا من 2010 ولحد النهاردة أكيد الرقم ده زاد، وطبعًا كده مش الفصيلة بس اللي في خطر لكن البشرية كلها للأسف.. ليه البشرية كلها؟ هنعرف.
معظم النباتات اللي نعرفها بتحتاج كميات كافية من الأكسجين، ودرجات حرارة متوسطة، وتربة جيدة التهوية، وماء عذب، وطبعًا شمس عشان تقدر تنمو وتزدهر وتقوم بكل العلميات الحيوية الخاصة بيها. لكن شجر المانجروف بيضرب مثال في تحمل كل ظروف البيئة القاسية.
شجر المانجروف بيعيش في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية وبيتحمل درجات حرارة مرتفعة، وبالتالي بتكون نسب عمليات التبخر مرتفعة، ده غير إن جذوره بتكون مغمورة بالماء في تربة قليلة الأكسجين وطينية وكمان مالحة. مقاومة كل العوامل دي والتعايش معاها هو اللي بيمنح شجر المانجروف لقب “survivor”. المقاومة دي بتتم عن طريق مجموعة من أساليب التكيف المذهلة اللي هنتكلم عنها بالتفصيل.
شجر المانجروف مش مذهل من حيث مقاومته للظروف البيئية الصعبة وبس، لأ ده يعتبر راعي للتنوع البيولوجي لأنه بيعمل بمثابة حضّانة لكتير من الكائنات الحية اللي بتعيش فيه واللي منها أنواع نادرة وفريدة من نوعها، ده غير دورها المهم جدًا في حماية البيئة من خطر تغير المناخ، لأنها بتعتبر بمثابة “خزانات” لثاني أكسيد الكربون، وبتمنع انطلاقه في الجو، وده برضه هنعرف عنه بالتفصيل.
اعرف أكتر| الزراعة بدون تربة: قيراط الهيدروبونيك ولا فدان زراعة
طرق تكيف شجر المانجروف مع البيئة القاسية
-
إفراز الأملاح:
المناطق الساحلية اللي بينمو فيها المانجروف تعتبر بيئات صعبة جدًا بالنسبة للنباتات الخشبية، لكن المانجروف بتتكيف بشكل فريد مع البيئة المالحة، لدرجة إن بعض أنواع المانجروف بتقدر تنمو في تربة تصل ملوحتها لـ75 جزء في الألف، يعني حوالي ضعف ملوحة ماء المحيطات، لكن معظمها بتنمو في درجة ملوحة ما بين 3 – 27 جزء في الألف.
شجر المانجروف بيتخلص من الملح بآليات مختلفة، منهم اللي بيتخلص من الملح الزائد في أنسجته عن طريق إخراجه على الأوراق، ومنهم اللي لا يسمح للملح بدخول أنسجته من الأساس.
- في أنواع زي المانجروف الأحمر الموجودة في مصر، بيقوم النبات بعمل حاجز بيمنع الملح من الدخول للأوعية الناقلة في النبات – اللي بتنقل الغذاء والأكسجين- وبكده حوالي 90% من الملح الممتص من الماء بيتم استبعاده. والحاجز ده بيعمل عكس الخاصية الاسموزية، ودي خاصية بيتنقل فيها الماء من المنطقة ذات التركيز المنخفض من الملح للمنطقة ذات التركيز العالي. فلولا وجود الحاجز ده، كانت المياه المالحة هتتنقل جوا النبات، وبالتالي تدمر أنسجته وتعيق نموه وازدهاره.
- بالنسبة لأنواع تانية من شجر المانجروف زي المانجروف الأسود بيتم التعامل مع الملح بعد دخوله للنبات. بعد امتصاص الماء المالح، بيتم إفرازه عن طريق مسام خاصة (غدد ملحية) موجودة على الأوراق، ولما بيتبخر الماء بتتبقى بللورات الملح على سطح الورقة زي الصورة كده.
-
تهوية الجذور:
التربة اللي بينمو فيها نبات المانجروف بتعتبر تحدي من نوع خاص لإنها تربة فقيرة بالأكسجين، وعلى عكس النظرة القاصرة للنباتات على إنها بتستهلك ثاني أكسيد كربون وتخرج أكسجين في عملية البناء الضوئي، فالنبات كمان بيستهلك أكسجين في عملية التنفس زيه زي أي كائن حي بيتنفس هوائيًا.
في العادي النباتات بتاخد الأكسجين اللي محتاجاه من التربة المحيطة بيها. لكن بالنسبة لجذور المانجروف ده مش متوفر، وبالتالي الجذور نفسها محتاجة توصل للهواء عشان تقدر تستخلص الأكسجين، عشان كده جذور المانجروف مش بس موجودة تحت الأرض لأ دي كمان مغمورة في الماء. كل العقبات دي سمحت للنبات بالتطور بشكل يخلي جذوره تقدر توصل للهواء حتى وهي تحت الماء.
في حين إن معظم النباتات الأرضية بتخترق الأرض بأعماق معينة وصولًا للماء والمغذيات والأكسجين، شجر المانجروف بيعتمد على جذور زاحفة وممتدة الأطراف على عمق سنتيمترات قليلة من التربة ، وده بيخليها تجمع ما بين تثبيت الشجر في التربة وفي نفس الوقت سهولة الوصول للهواء تحت الماء.
في بعض أنواع شجر المانجروف بتنمو الجذور بشكل عمودي، بمعنى إنها بتطلع من التربة لفوق وبتبقى شبه القلم الرصاص أو مخروطية الشكل، وبيبلغ طولها من 20 – 50 سم في معظم الأوقات.
شجر المانجروف .. نظام بيئي متكامل
شجر المانجروف بينمو في تجمعات تشبه الغابات، منها اللي بيمتد لكام متر ومنها اللي بيوصل لكيلو مترات من الأشجار. تعتبر غابات المانجروف أرض التقاء لآلاف الأنواع من الكائنات الحية، وبتوفر شبكة غذاء متنوعة لهم، يعني مثلًا في بعض الأنواع البحرية اللي بتتغذ على الأوراق مباشرةً زي سرطان البحر وأنواع من الحشرات.
في حين إن في أنواع تانية من الكائنات المحللة اللي بتنتظر سقوط الأوراق من الشجر عشان تتغذى عليها وتستهلك المغذيات منها. الميكروبات والفطريات الموجودة بين جذور المانجروف بتستخدم المواد المتحللة في التربة كوقود، وفي المقابل بتقوم بإعادة تدوير المغذيات الموجودة في المواد المتحللة زي النيتروجين والفسفور والكبريت والحديد.
بالإضافة للأنواع دي، فعدد من الكائنات الحية زي القرود والطيور والحشرات بتتخذ من فروع أشجار المانجروف مأوى ليها، ومنها بعض الأنواع المهددة بالانقراض زي الطائر الطنان. أما عن تحت الماء، هتلاقي الاسفنج والقواقع والديدان وشقائق النعمان والمحار، ودي الأنواع اللي بتمسك في السطح الصلب للجذور وتلتصق به.
أما بالنسبة للأنواع اللي بتقدر تسبح، فجذور المانجروف مش بس مكان غني بالغذاء لكنها كمان ملجأ آمن من المفترسات، وده اللي بتعمله سرطانات البحر وأنواع من الجمبري، وبعض الأسماك في مراحل حياتها المبكرة عشان تضمن الحفاظ على حياتها لحد البلوغ زي أسماك الببغاء.
بترتبط أعداد الأسماك بأعداد شجر المانجروف بشكل طردي، ففقدان ميل مربع واحد من الغابات معناه في المقابل فقدان 124 طن من الأسماك سنويًا.
شجر المانجروف فوائد بيئية لا تنتهي
جزء من قيمة غابات المانجروف نابع من قدرتها على تعديل ودعم البيئة المحيطة بيها، يعني مثلًا نظام الجذور المعقد في المانجروف بيعمل على صد الأمواج اللي بتسمح بتراكم الرمال والقاذورات وجزيئات الطمي، ومش بس كده الجذور كمان بترسبها بشكل يمنع تآكل الجذور نفسها.
وأخيرًا نحب نختم بدور غابات المانجروف في امتصاص وتخزين الكربون الموجود في الغلاف الجوي. مع نمو أشجار المانجروف بيتاخد الكربون من ثاني أكسيد الكربون ويتم استخدامه في بناء أوراقها وجذورها وفروعها. وبمجرد سقوط الأوراق أو موت الأشجار الكبيرة في السن، بتقع في قاع البحر وتاخد الكربون المخزن معاها بحيث يتم دفنه في التربة.
الكربون المدفون في التربة بيعرف باسم “الكربون الأزرق” لأنه بيتم تخزينه تحت الماء في الأنظمة البيئية الساحلية زي غابات المانجروف وأحواض الأعشان البحرية والمستنقعات المالحة، وعلى الرغم من إن أشجار المانجروف بتمثل أقل من 2% من البيئات البحرية، لكنها بتساهم في نسبة 10 – 15% من دفن الكربون.
فدان واحد من المانجروف يقدر يخزن حوالي 659 كيلو جرام من الكربون سنويًا، وبتشير إحدى الدراسات لإن مجموع شجر المانجروف الموجود على مستوى العالم بيقدر يخزن حوالي 34 مليون طن من الكربون سنويًا.
عشان كده ولكل اللي فات نقدر نقول إن شجر المانجروف هو أحد أهم حماة الكوكب ده، وأي خطر بيتعرض له بيعتبر تهديد لينا. العالم كله لازم يهتم بالحفاظ على أشجار المانجاورف والعمل على إكثارها. وبالفعل في الوقت الحالي نقدر نقول إن كل شجر المانجروف الموجود في مصر، سواء في مرسى علم أو سيناء أو على سواحل البحر الأحمر، أصبح تحت الحماية بداخل محميات بتشرف عليها وزارة البيئة وبتعمل على إكثارها كمان.
وكده نكون عرفنا اشمعنى شجر المانجروف استحق إنه يكون النبات الوحيد الموجود في شعار مؤتمر الأمم المتحدة للتنوع البيولوجي.. قولوا لنا بقى هل حد منكم سمع عن الجندي المجهول ده قبل كده؟
المصادر: mangroveactionproject oceanservice ecosystems fao dpi
مقال هااام جداً وبه إثراء هائل للمعلومات احييكم موقع نيون
واحييكى استاذة مها بشكل خاص جداً
شكرًا ليكي يا سحر .. ونتمنى دايمًا تلاقي عندنا كل ما هو جديد وممتع ومفيد