.
هيدروجينا

لمن يستطيعون الانتصار على ألم الذكرى!

كتبت: آية أشرف المرسي

”من يملك القدرة على التذكر هو فقط من يستطيع الانتصار على ألم الذكرى“.

الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس _ طارق إمام .

أول مرة صادفني هذا الاقتباس وسط حكاية لأحد أصدقائي الأقرب إليّ، توقفت عنده طويلًا، كيف هذا من يملك القدرة على التذكر، يستطيع الانتصار على ألم الذكرى؟ كيف وأننا دومًا نردد بأن النسيان نعمة!

الذاكرة بكل مشتقاتها تمثل مأزقًا حقيقيًا بالنسبة لي. شهدت وأنا صغيرة مرض جدتي بالألزهايمر، رأيته كيف يقضي على الأخضر واليابس من ذكرياتها، من حياتها ومعرفتها لكل أمرٍ مما حولها شيئًا فشئ، ليتركها كورقة شجرٍ هشة تذروها الرياح. فمن لا يملك ما يتذكره لا يملك حياة! دومًا ما كانت أفلام السينما التي تتناول هذا المرض الشرس محل اهتمامي، ودومًا ما كان المرض ذاته مصدر هلعٍ حقيقي من أن يصيبني ما أصاب جدتي.

مؤخرًا، بل بالأحرى في أخر عامين، اعتدت الشكوى من كثرة النسيان، تفاصيل كثيرة تسقطها ذاكرتي، وأحيانًا يختلط الأمر عليّ هل هو نسيان أم مجرد تشوش وقلة تركيز بسبب الإجهاد أو غيره؟ اعتدت دومًا أن تصادفني روابط لمقالات على شبكة الإنترنت حول كيف تنشط ذاكرتك، وتمرينات ذهنية تساعدك على التركيز، ودراسات حول أنواع علاج مختلفة، ودراسات علمية في محاولة لوضع نهاية لمرض ألزهايمر.

في عام 2004، انتصر الحب لفكرة الذكرى الباقية ضد النسيان، حتى وإن لجأنا له عمدًا كما شاهدنا في أحداث فيلم ”enternal sunshine of the spotless mind“، والذي طرح حينها إمكانية أن نمحو أمورٍا بعينها من ذاكرتنا في عيادة أحد الأطباء، خاصةً تلك الأقسى والأكثر ألما تاركةً ندبة باقية معنا على مر الأيام والسنوات، فحتى وإن بقيت هيّ، فعلى الأقل لن تبقى ذكرى من تسبب فيها أو كيف حدثت؟

الأوساط  العلمية خرجت علينا منذ عدة شهور بأحد إنجازاتها _كما تفترض_ المربكة _كما أفترض أنا_. وهو التمكن من محو أجزاء معينة من ذكرياتنا، أو تبديل مشاعرنا السلبية من خوف أو توتر تجاه مواقف معينة إلى نقيضها الإيجابي من سعادة أو شعور بالراحة تجاه نفس المواقف!

لنتكلم بشئ من التفصيل؛ الذكريات ما هي إلا نتاج مجموعة من العوامل، والتي تم تخزينها في مناطق مختلفة من العقل. السياق الزمني أو المكاني لهذه الذكرى يتم تخزينه في خلايا الحصين، وهو منطقة في المخ ترتبط بالمشاعر التي تساعدنا على التذكّر من خلال تشفير الأحداث والتجارب المهمة وتحويلها لذكريات طويلة المدى، بينما توجد المشاعر التي ارتبطت بهذه الذكرى وقتها في اللوزة العصبية أو كما يطلقون عليها amygdala.

فريق الباحثين الذي أجرى دراسته على مجموعة من الفئران، راقب أي من خلايا المخ تكن نشيطة عندما يمر الفأر بنشوة أو سعادة غامرة _مثلا عند الإتصال الجنسي بين ذكر وأنثى من الفئران_ وأيها تنشط عندما يمر بتجربة سلبية، كالتعرض لشحنة سلبية بسيطة.
اكتشف الباحثون أنه بمحاكاة الخلايا العصبية المرتبطة بالشعور المضاد، يمكنهم عكس الإحساس السلبي بآخر إيجابي، فكانت الفئران أكثر استرخاءًا وراحة عند التعرض لنفس الظروف والمناخ الذين تسببوا لهم بالشعور بالتوتر والخوف سابقًا.

تأتي الفكرة من حقيقة أن اعتقادنا حول تكوين والاحتفاظ بذكريات دقيقة حول ما نمر به أمر خاطئ تمامًا، فذاكرة الإنسان طيّعة كما يخبرنا العلماء، فيتذكر بعض الأمور بوضوح، والبعض الآخر يتذكره بصورة ضبابية، وغيره يسقطه من ذاكرته وفقًا لعملية انتقائية تحدث بشكل تلقائي بداخله.

يقول الباحثون أنهم يأملون بأن يكون هذا وقايةً من أمراض كالاكتئاب، والاضطراب العصبي ما بعد التعرض للصدمة بدلًا من اللجوء للأدوية. أوضحت قائدة البحث والدراسة أن هذه التقنية _إن جاز التعبير عنها بذلك_ في قيد التطوير والتجريب للتحقق من التطبيق الأمثل لفكرة المحاكاة تلك، ولكنها أكدّت بدافع الطمأنة بأن هذا الإجراء لن يستخدم إلا في الحالات المرضية فقط، ليس من أجل تغيير أي من عقول الناس الصحية أو إدراكهم المعرفي!

في فيلم الكارتون ”Inside Out“ الرائع، والذى كان بمثابة مرجعٍ تربوي ونفسي للأطفال والكبار، ولكن بشئ من البساطة والذكاء، وجدنا أن المشاعر انقسمت ما بين الفرح والحزن والخوف والاشمئزاز والغضب مدركين أن تجاهل مشاعر الحزن _تحديدًا_ أمر غير منطقي أو طبيعي، وأن الخوف أحيانا يكون تنبيهًا فطريًا وداخليًا بضرورة التصرف حالًا!

تصنيف هذه المشاعر ما بين الإيجابي والسلبي، وإلباسها جبرًا عباءة المفيد والضار أمر طفوليّ، وفي أقوال أخرى غير نزيه، فرُغم تأكيد الباحثة التي تقود البحث مع غيرها من الباحثين على أن تطبيق مثل هذه التقنية من محو أجزاء من الذاكرة أو تبديل المشاعر المرتبطة بها من الإيجابي للسلبي لن يسري سوى على الحالات المرضية، إلا إنه لا تحضرني سوى مقولة آينشتاين ”شيئان فقط يمكن وصفهما باللانهائي؛ الكون وغباء الإنسان، وإن كنت لست متأكدًا من الكون“.

فنحن من الحماقة أن نتخلى عن ذكرياتنا هكذا، عما يكوّننا في الأصل، عن خداع أنفسنا بتبديل مشاعرنا تجاه المواقف الحياتية التي نواجهها، والإقدام على التفريط فيما لا يمكن إرجاعه مرةً أخرى. ربما سيختلف معي البعض، ويرى وجاهةً في سعي الباحثين في النجاح في تطبيق هذه التقنية ولا غضاضة في ذلك، ولكنني لا أراه سوى مزيد من ممرات الهروب وأبواب النجاة الوهمية التي تقودنا للاشئ، فقط فراغ أو زيف بائس في حقيقته.

عندما سألت صديقي حول كيف من يملك القدرة على التذكر، يستطيع الانتصار على ألم الذكرى؟ أجابني بأن ألم النسيان مزدوج، فلن يتوانى على أن يأخذ في طريقه الحلو والمُر من الذكرى، وفقط سيترك لنا الفراغ!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى