.
منوًع

نيون في سنة: كيف أصبحت الدكتور رأفت؟

كتب: أحمد حسين

-1-

أقصر طريق بين نقطتين هو الخط المستقيم، قاعدة بسيطة لا تحتاج إلى شرح أو تفنيد، لكن ماذا لو كان الضباب أمام عينيك كثيف، لدرجة إنك مش قادر تُدرك وجود الخط ده من الأساس. في تعبير قرآني لطيف جدًا بيتكلم عن الأوقات الضبابية دي: «أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا»، وهو التعبير اللي بعتبره بشكل شخصي يعني دقيق عن الحالة اللي كنت فيها السنة اللي فاتت زي الوقت ده.

الإجابة على الأسئلة مش أصعب من الأسئلة نفسها، بالنسبة لي كانت الأسئلة كلها مُربكة؛ إنت عايز إيه؟ واللي إنت عايزه ده عارف ممكن توصل له إزاي؟ طيب والخمس سنين اللي درست فيهم هندسة، هتسيبهم كده عادي وتروح تشوف الكتابة اللي عايز تشتغل فيها دي؟ طيب وجعت قلبك ليه من بدري؟

-2-

شهر مارس اللي فات حضرت احتفالية أسبوع العلوم، في دكتور لطيف جدًا اسمه «ديفيد ستورك» لما جيه يتيح مجال للأسئلة، طلب من الناس يسألوا أسئلة جيدة لأن السؤال في الغالب بيكون أهم من الإجابة. تقريبًا ده نفس اللي قاله الفيزيائي الأمريكي “كارل ساجان”، لما راح يزور روضة أطفال، قال إنهم متحمسين دائمًا للسؤال، لكن لما زار مدرسة متوسطة (إعدادية)، لقى إنهم ماعندهمش حماس تجاه الأسئلة أساسًا وأصبحوا شخصيات بلا فضول، وهنا تكمن المشكلة، لابد يكون في شيء خاطئ تمامًا حصل في فترة الإنتقال من الروضة إلى المدرسة المتوسطة أفقد الطلبة حماسهم تجاه المعرفة والفضول بشكل عام.

-3-

بعد نتيجة الثانوية العامة، كان السؤال الأصعب بالنسبة لي هو: «ها! عايز تدخل إيه؟ عايز تعمل إيه؟»، في الوقت ده ماكانش عندي أي إجابة، مش عايز أعمل حاجة وماعنديش شغف تجاه أي حاجة، ينفع ماكملش تعليمي وأقعد في البيت؟ أو أتجوز؟ أتجوز وأقعد في البيت وخلاص بقى، لكن الحقيقة ده ماكانش حل مطروح بالأساس.

طيب أعمل إيه؟ من صغري تقريبًا وأنا مابحددش حاجة بعينها، خصوصًا في موضوع التعليم ده، بنتقل من المرحلة الإبتدائية للإعدادية للثانوية بشكل تلقائي كده ومن غير اختيارات، الاختيارات مُربكة بالأساس ومحتاجة إنك تستغنى عن شيء في سبيل شيء آخر، وأول اختيار اتفرض عليا كان اختيار المُفاضلة بين علمي وأدبي، فأنا اضطريت اختار على حسب أنا بكره إيه واختار عكسه، يعني مثلًا أنا بكره التاريخ، فأكيد مش هختار أدبي، خلينا في علمي بقى، علمي علوم وفيزياء وكيمياء وأحياء، ولّا علمي رياضة وفيزياء وكيمياء بس من غير أحياء بقى وهدرس رياضيات؟

نيون

القرار ساعتها كان إني أدرس رياضيات وأبقى كده علمي رياضة بشكل رسمي، والسبب ساعتها كان إني فاكر – ههه- إني نجوت بنفسي من الأحياء، وإن الصِعاب خلاص ورا ضهري، ومن النهاردة هضحك للحياة والحياة هتضحك لي وهنضحك على الناس والناس هيضحكوا على ضحكنا، والطيور والنمور والقصور وكل شيء هيفرح لفرحنا. بس اللي حصل في الواقع بعيدًا عن التوقعات، إن الفيزياء والكيمياء سحبوا رخصي وأنا جاي بالمجموع اللي كنت بتمناه، وساعتها ظهر سؤال أصعب، أنا هدخل كلية إيه؟ هو أنا كنت علمي رياضة ليه بقى؟

-4-

الأسئلة اللي بدأنا نطرحها في نيون، كانت أسئلة بتدور في دماغنا من زمان لكننا ماكناش بنهتم بالإجابة أو حتى بننسى ندوّر عليها. في الوقت ده كنت مهتم أكتر بحاجات زي إحنا ليه إيدينا بتتجعّد لما بنفضل في الميّه فترة طويلة؟ هل السمكة بتشرب ميّه زي كل الكائنات الحية؟ إيه هو الاكتئاب ده؟ هل هو حالة الحزن اللي بتصيب كل البشر في بعض اللحظات؟ ولا الموضوع أكبر من كده؟

البحث عن إجابات للأسئلة دي، على قد ما كان بيطمّن عقولنا ببعض الإجابات المُرضية، إلا إنه كان بيفتح عيوننا على أسئلة تانية، أسئلة أكتر. الكاتب الإنجليزي جورج برنارد شو كان له مقولة بتقول: «العلم لا يُحل المشكلة دون أن يخلق عشرة مشاكل إضافية». والأسئلة دي كل فترة كانت بتبقى أكبر، وبتنتقل من الجزء الخاص بالإنسان وجسمه ونفسيته، للكواكب والنجوم والعوالم الموازية ونظرية الأوتار، والزمن بقى ونسبيته والعلاقة بينه وبين المكان ومدى تأثيره علينا، الموضوع كل فترة بيكبر أكتر.

-5-

واحد من أصعب القرارات اللي وقفت قدامها موقف الطفل اللي عامل غلطة وأهله بيطلبوا منه يختار عقابه بنفسه، اختيار الكلية في التنسيق بمجموع مايدخلنيش حاجة من «كليات القمة» ولا يدخلني كلية ممكن أكون عايز أدرس فيها، وعند النقطة دي تحديدًا رجع يلوح في الآفق سؤال «هو أنا دخلت علمي رياضة ليه؟»، وبدأت أفكر في «طيب ما أدخل هندسة، مالها هندسة، أكيد دخلت علمي رياضة علشان أدخل هندسة.. صح؟»، وساعتها ظهر صوت ماجد الكدواني في دماغي بيقول «ماتتهوّرش، ماتتهوّرش، ماتتهوّرش»، فروحت دايس في التنسيق على هندسة.. خلاص اتهوّاااااار.

سنوات هندسة ماكانتش سيئة جدًا، بس أنا لما وصلت للسنة التالتة بدأت أدرك إن مش ده اللي أنا عايزه، وإني بحب الكتابة أكتر بكتير من المعادلات والحسابات والرسومات، ثم أنا ماكنتش بفهم في الهندسة أساسًا *بصوت عادل إمام في شاهد ماشافش حاجة*، بس الحمد لله قدرت أتخطى الخمس سنين على خير، بدعاء الوالدين بقى وملخصات آخر السنة وكل الكلام ده، بعد التخرّج بقى أصبحت عاطل رسمي، طيب الخطوة الجاية إيه؟ الشغل، حلو هشتغل إيه بقى؟ *صوت صرصور الحقل*.

-6-

في الفترة اللي بدأت الأسئلة تزيد فيها، كنت بدوّر على إجابات تخص المشاعر اللي بنختبرها يوميًا، زي مشاعر الحزن والسعادة، دول بالذات كنت مهتم أعرف إحنا بنحس بيهم ليه وإزاي وامتى؟ طيب خلينا نقول الأول، إن الحزن – حسب ما عرفت يعني- شعور أساسي للبشر، علشان يقدروا يتخطوا بيه المصائب والضغوطات والتوتر، ودي المرحلة اللي بتُسمى العزاء.

طبيبة نفسية اسمها «إليزبيث كوبلر روس» قالت إن العزاء هيحصل هيحصل، إما كجرح مفتوح يلتئم، أو كجرح مغلق ينزف، وهيحصل سواء بصدق أو بشكل مناسب أو بشكل غير لائق أو حتى بشكل لاواعي، المهم إنه هيحصل في النهاية، والفكرة دي خلتني قادر إلى حدٍ ما أفهم إن الحزن مش اكتئاب، الحزن مجرد طريقة مننا للتخلص من المشاعر السلبية، أما الاكتئاب فمرض بيغيّر كيمياء المخ وبيخليه يفرز السيراتونين والدوبامين بنسبة أقل، ودول زي ما بنقول عليهم «هرمونات السعادة».

والسعادة هي تقريبًا الشيء اللي بنعيش حياتنا نسعى له، وهو موجود بالفعل، لكنه علشان في معظم الآحيان قريب من أوقات الحزن فبنتناساه أو مابنركزش معاه، لكنه بالفعل موجود. وعلى الرغم من إن تعريفه شبه واضح، وهو إنه أي حاجة تساهم في رفع نسب السيراتونين والدوبامين تبقى بالتأكيد بتسبب السعادة، إلا إن السعادة نفسها مالهاش طريق واحد، وكل شخص له شيء بمنحه السعادة يمكن مايعجبش غيره، سواء بتحب السفر أو بتحب شغلك أو عندك أصدقاء وأحباب بتجمعك بيهم علاقة طيبة، كل دي حاجات ممكن تسبب السعادة لناس مختلفة، وكل واحد يعمل ما بدا له، وما يمنح له السعادة.

-7-

في ديسمبر الماضي، التقت الخطوط ببعض، الخط الخاص بسؤال هشتغل إيه؟ والخط الخاص بالبحث عن الأسئلة اللي بتدور في عقلي. الحياة بالفعل بنت لحظتها تمامًا، وفي اللحظة دي من السنة اللي فاتت كنت حزين ومُحبط وبفكر أشتغل بعيد عن مجالي اللي درست فيه خمس سنين، على الرغم من اعتراض البعض، إلا إن أهلي في النهاية أدركوا بشكل واضح إني مش عايز أشتغل في مجال الهندسة، وإن الكتابة هي الحاجة اللي بحب أعملها فعلًا.

الحقيقة إني في اللحظة دي، حابب أقول إني ممتن جدًا لنيون، اللي كان بالنسبة لي خط مهم في حياتي منحني الكثير، المكان ده أنا بعتبره الأقرب لقلبي من بين كل الأماكن اللي اشتغلت فيها. «أقصر طريق بين نقطتين هو الخط المستقيم»، ده حقيقي وصحيح ولا جدال فيها، لكن مش بالضرورة يكون الخط ده هو أفضل خط محتاج تمشي فيه، الاختيار مربك طبعًا ولازال مُقلق، لكن التجربة والخطأ والتعلّم منها هتظل أكتر طريقة مفيدة ممكن ناخد خبرتنا عنها، شغلي في هندسة كان غلط لأني ماكنتش بحب الشغل ولا بفهم فيه، لكنه خلاني أُدرك تمامًا إنه مش المجال اللي حابب أكمل حياتي فيه.

لذلك، هيظل نيون خط مهم جدًا في حياتي، جسر قدر يساعدني انتقل من مرحلة الحيرة إلى مرحلة أكثر طمأنينة، طبعًا الحيرة والقلق جزء لا يتجزأ من الحياة – على الأقل بالنسبة لي-، لكن ده مايمنعش وجود بعض الأشياء اللي ممكن تمنحنا هدوء لطيف ولو لفترة من الزمن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى