.
منوًع

عن فهم الفن والإحساس بالعلوم .. شربت الفطار وأكلت القهوة

كتبت – يارا كمال

من أكتر من سنة اشتغلت في موقع نيون. لما قلت لأصحابي إني اشتغلت في موقع علمي، استغربوا، لإني دايمًا بقول إني عايزة أبقى كاتبة ومخرجة، وبروح أتعلم كمانجة، إيه علاقة ده كله بقى بالعلم؟

من وأنا صغيرة وأنا بشوف الناس بتحتفي بالفن الهادف .. الفن المفهوم .. الفن اللي بيعلّم الناس قيمة. مسلسل «يوميات ونيس» ظهر وقت مانا وعيت على الدنيا ومن أوائل الحاجات اللي كنت بتمرد على مواعيد نومي وأنا عيّلة عندي 6 سنين عشان أشوفه. من وأنا صغيرة، وأنا بسمع السؤال بتاع «استفدتوا إيه من القصة يا حبيبي؟». يمكن ده أعبط سؤال ممكن يكون الأطفال بيتسئلوه وهما صغيرين، لإنه بيعلّمهم إن فيه رسالة واضحة يقدروا يطلعوا بيها من القصة، بدون ما يلتفتوا للانطباع الوجداني اللي بتسيبه القصة في نفوسهم، يعني ممكن قصة تبكيهم أو تضحكهم، وده كافي عشان تبقى قصة حلوة مش ملتوتة (ولو إني معرفش لحد دلوقتي يعني إيه «ملتوتة». يمكن جاية من اللت والعجن؟).

يمكن اللي بقوله ده كبير أوي على الأطفال، وإنهم ممكن يكونوا صعب عليهم التعبير عن انطباعهم الوجداني (ويمكن لأ)، بس مش هي دي الفكرة. المشكلة إننا بنكبر بالفكرة دي، وبنبتدي ننسى إن الفن مش مهمته يوصل رسايل قد إنه يحرك مشاعرنا ويمس وجداننا، لإننا مش كمبيوتر بتدخل له شوية معلومات، فيطلع شوية معلومات. الفن مهمته يسأل أسئلة أسئلة وجيهة، مش إنه يقدم إجابات. الفن بيعبر عن تعقيداتنا كبشر. الفن شغلته إنه يبحث عن حقيقة الوجود اللي عمرنا ما هنوصل ليها، ولكن الكنز في الرحلة نفسها.

وعشان الناس عندنا شايفة إن الفن بيتفهم، هتلاقي فكرة زي المزيكا المجردة أو معارض الفن التشكيلي مش واردة أوي، لإنها حاجات بشكل واضح بتوصل حالة ومفيهاش محتوي ملموس أقدر أتكلم عنه، بمعنى إنه أسهل إن أقول إن الفيلم الفلاني بيتكلم عن كذا من أني أقدر أشرح لك الموسيقى دي عن إيه واللي وارد مايكونش عندي فهم ملموس ليها، إلا لو الموسيقار اللي عاملها مسميها اسم أقدر أقنعك من خلاله إنها بتتكلم عن شيء بعينه، وساعتها هبقى بضحك عليك.

مرة وأنا في الكلية كنت بعمل حوار مع مخرج، فكان ليه حوار في برنامج اتفرجت عليه عشان أُلم بشغله قبل ما أقابله. المذيع والمذيعة كانوا شايفين إن الفيلم عن تربية الأطفال السليمة وقدّموا الفقرة على هذا الأساس. وهما بيسألوا المخرج عن حاجة بخصوص هدف الفيلم اللي أٌقرّوه بمنتهى الثقة، فالمخرج أحبطهم وفهمهم إن الفيلم مابيتكلمش عن كده، وإنه مجرد قصة حس إنها تستحق الحكي، وإن من حق أي حد يفسّر القصة زي ما هو عاوز. كنت حاسة إن المذيع والمذيعة كانوا عايزين يقولوا له: «لأ بقول لك إيه .. احنا مستضيفينك على أساس إن الفيلم عن تربية الأطفال».

لما حد بيتكلم معايا عن إن فيلم مثلًا ملوش هدف، ببقى عايزة أقول له إن لو المشكلة إن فيه هدف ولا لأ، كان زمان أغنية «العبد والشيطان» بتاعت محمود الحسيني اللي بتقول «وبقيت تلعب بوكر، وبتشرب جون ووكر» أحسن من أي أغنية عاطفية لأم كلثوم، لإنه أكيد إني أوعّي الناس بالكلام اللي بيوسوس لك بيه الشيطان أهم من جملة «وهمسلي قال لي الحق عليه .. نسيت ساعتها بعدنا ليه». بس دي مش حقيقة، الجمال دايمًا بينتصر، لإن في الآخر العظة ممكن تتقال بشكل مباشر، لكن الفن بيوصل مشاعر صعب الإنسان يوصفها.

فيه فيديو طلع على الفيسبوك لشباب صوتهم حلو جدًا بيغنوا «وأنا نايمة» وبيرتجلوا لحن للكلام، وكل واحد فيهم وطريقته، وفيه كومنتات كتير على الفيديو قالت إن صوتهم حلو أوي بس يا ريت يستغلوا صوتهم ده في كلام مفيد. وقتها حد نزّل بوست عجبني جدًا بيرد على الناس اللي قالوا كده بإن الجمال قيمة مستقلة بذاتها مش لازم يرتبط بمعنى أخلاقي عشان يبقى جمال، والفكرة نفسها إنهم قدروا بصوتهم يحوّلوا كلمات الغنوة البسيطة أو العبيطة أو زي ما تشوفها بقى لشيء جميل يستحق يتسمع.

وكلنا ماننساش إن فيلم «نهر الحب»، المأخوذ عن رواية «أنّا كارنينا»، بيعتبر من الأيقونات الرومانسية في السينما المصرية، ويمكن مشهد فاتن حمامة وعمر الشريف وهما بيرقصوا وهما لابسين الماسكات في الحفلة، يكون من أول المشاهد اللي ممكن تيجي في مخك لو سألت عن أشهر مشهد رومانسي في السينما المصرية. بس لو منطقنا الفيلم هنلاقي إنه بيحكي قصة ست خانت جوزها، مع ذلك خلانا نتعاطف معاها ونكره الزوج، وده مش عشان يحببنا أو يسوّق لنا فكرة الخيانة، إنما عشان يخلينا نشوف بُعد تاني للحقيقة وللطبيعة الإنسانية. الفن بيخلق سياقات مختلفة يخلينا نشوف أبعاد تانية لأي حاجة في الدنيا.

نيجي بقى للعلوم وخصوصًا الطبيعية زي الفيزيا والكيميا والأحياء. في حين إنها بتعتمد على أدلة محسوسة لدراسة ظواهر طبيعية بتَثبُت بالتجربة والملاحظة أو حتى من خلال التنبؤ عن طريق النماذج الرياضية. مع ذلك، تطلع لنا برضه عُقد الطفولة. يمكن حصص المواد العلمية أكتر حصص سمعت فيها جملة «معلش خديها كده»، يا إما إن المنهج مش مترتب صح، ففي حاجات بندرسها في الفيزيا مترتبة على حاجات المفروض نكون درسناها في الرياضيات وللأسف ده محصلش، أو لإن الشخص اللي بيشرح لي مش مستوعب المعلومة أوي أو مش قادر يبسطها لي أو معندوش استعداد يعمل كده أو أنا معنديش القدرة إني استوعب الجزء ده بسهولة. المهم إن جملة «خديها كده» دي غريبة جدًا في إنها تتقال عن شيء علمي. العلم أصلًا مبنى على إننا «ماناخدهاش كده»، وإننا نسأل وندوّر ونحاول نفهم. فيه دكتور أجنبي ألقى محاضرة في أسبوع العلم المصري كان بيقول إنه بيطلب من الطلبة بتوعه إنه مع كل تكليف بيكلفهم بيه إنهم يسألوا سؤال جيد.

تقريبًا من ساعة ما كنّا في المدرسة، واحنا بناخدها كده، ولحد دلوقتي. لو فرمت شوية توم وحطيته في ميه مغلية وشربته على الريق، هتتعالج من السرطان وهتتحصن من الجن والعفاريت وتضرب الودع وتقرطس الجدع، وانشرها ولك الثواب عند الله. الكلام ده حتى من غير ما يقول لك ده بيحصل ازاي، واحنا بنشيّر عادي، عشان احنا متعودين «ناخدها كده».

وهنا بقى مربط الفرس. أنا حسيت إني الحاجة اللي أنا عايزة اعملها والحاجة اللي أنا هشتغل فيها ماينفصلوش عن بعض، وأننا لو عايزين حاجة فيهم تظبط، فاحنا محتاجين نظبط الحاجتين. يعني لو عايزين الناس تفهم العلوم، لازم تعرف تحس الفنون، والعكس صحيح. لو قدرنا نفهّم الناس إن العلوم مابتتاخدش بالسينس، وإنها أبسط من اللي احنا فاكرينه، ده هيساعدني في طموحي القادم، ومش هلاقي حد ييجي يقول لي: «انتِ عايزة تقولي إيه بالفيلم أو القصة دي؟». أنا وصاحبتي كنّا عاملين صفحة كده افتكاسة عن مصطلح اخترعناه اسمه «السيحان المركّب» وحاولنا نشرح فكرتنا، وبدون دخول في تفاصيل، أكتر من حد سألنا احنا مش فاهمين يعني إيه «سيحان مركّب»، فنقول له الشرح اللي كتبناه في الصفحة، فيقول لنا إنه برضه مش فاهم، فنرد عليه ونقول له إنه لو ماحسّش الفكرة، يبقى شرحنا ده تضييع لوقته، لإن دي حاجة ماتتفهمش.

في النهاية، الفن والعلم هما عمودين الثقافة. الاتنين بيدوروا على الحقيقة وبيحاولوا يجاوبوا عن أسئلة ليس الهدف منها الجواب قد إيه اللي هنوصل له واحنا بندوّر على الجواب ده. الاتنين بيعتمدوا على الابتكار، والاتنين هدفهم التغيير. لو الكون كله هو اللي في مخ الإنسان ولو أنت غيّرت الأفكار، فأنت كده أحدثت تغيير في الكون. لو العلماء هما اللي بيوجدوا المعلومة، فالفنانين هما اللي بيخلقوا سياقات جديدة ليها وعلاقات جديدة بين الحاجات وبعضها.

من أكتر من 50 سنة، ألقى الفيزيائي والروائي الإنجليزي «تشارلز سنو» محاضرة بعنوان «the two cultures» واتنشرت ككتاب بنفس الاسم. في المحاضرة دي، انتقد الانقسام بين عمودين النشاط الفكري الإنساني وهما الفن والعلم. يمكن ده هنشوفه عندنا أوي في أبسط حاجة: لو جيت سألت حد كان أدبي في ثانوي عن مسألة حسابية أو معلومة علمية، هيقول لك: لا يا عم أنا كنت أدبي، والعكس صحيح.

فيه كاتب أمريكي اسمه «جون بروكمان» مهتم بالعلوم، سوّق لفكرة الثقافة التالتة واللي بتوصف العلماء اللي بيقدروا يخلوا المعاني العميقة لحياتنا مرئية واللي بيقدروا يشكّلوا أفكار جيلهم ويمكن يتفوقوا في ده على الفنانين كمان. يمكن ده نشوفه مع حد زي الكاتب المصري محمد المخزنجي، اللي بيقدر يربط في كتاباته بين اهتمامه بالحياة البرية والكشف عن معاني إنسانية.
يعني نقدر نقول إن العلم والفن ممكن يلهموا بعض. الفن مثلًا ألهم العلم زي ما «فيودور دوستيوفيسكي» ألهم بروايته «رسائل من أعماق الأرض» «فرويد» ونظريات علم النفس، وزي ما فن «ليوناردو دافنشي» أوحى له إنه يرسم حاجات زي آلة بتطير ويرسم تشريح الإنسان ويهتم بيه.

عمومًا الفنان والعالم لازم يفتّحوا حواسهم كلها ويتشرّبوا اللي بيحصل حواليهم، ومعرفش بقى إيه اللي هيوصلني لإيه: هل العلم هيلهمني بمعاني مكنتش شايفاها، أقدر استخدمها في الفن؟ ولا الفن اللي هيخليني أشوف العلوم بشكل مختلف؟ بس على العموم كده خير وكده خير.

المصادر:

nytimes wsu.edu scientificamerican livescience googlebooks

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى