.
الملف

الذاكرة 2: هنري موليسن وسر الرقم 27!

كتب: أحمد حسين

في المقال السابق تحدثنا عن أنواع الذاكرة وأنواع فقدانها، وذكرنا أننا سنبدأ في سرد قصة ”هنري موليسن“ العجيبة، أشهر من فقد ذاكرته في التاريخ.

في عام 1953، عندما كان هنري في الـ27 من عمره، كان قد أُصيب إصابة قوية نتيجة نوبات صرع كانت تأتيه منذ أن كان في العاشرة من عمره، لم يكن أمام الطبيب المعالج له إلا أن يستأصل الحُصين أو الـ”hippocampus“ (جزء مسئول بشكل كبير عن الذاكرة في المخ)، فأصيب بفقدان ذاكرة تقدمي، بمعنى أنه لم يعد يتذكر أي حدث لأكثر من 5 ثوانِ تقريبًا، فظل طوال سنوات عمره الـ82 معتقدًا أن عمره 27 سنة فقط.

حتى الآن الأمر ليس عجيبًا بالقدر الكافي، لكن العجيب بحق في قصة هنري أنه عند اختباره في أحد الألعاب الخاصة بالذاكرة كان يتقدم فيها يومًا عن يوم دون معرفة القوانين الخاصة باللعبة، بمعنى، أنه يتم تعريفه مثلًا بقوانين أحد ألعاب الكوتشينة، ويبدأ في اللعب، وفي اليوم التالي ينسى بالطبع اللعبة، فيتم تعريفها له مرة أخرى، يومًا بعد يوم، أظهر تقدمًا في مجموع النقاط التي يفوز بها، وكان هذا محيرًا بحق بالنسبة لجميع المتابعين لحالة هنري موليسن. فعقله توقف بالفعل عن تخزين ذكريات جديدة بما في ذلك اسم الدكتور المعالج له لمدة تخطت الـ30 عام، فكيف يحدث هذا؟.

الخوف وتأثيره على الذاكرة

حالة هنري موليسن كانت حالة عجيبة، لكن في النهاية كانت نتيجة لعملية في المخ، لكن ماذا عن من لم يتعرض لعملية مثل هذه ومع ذلك لم يكن يستطيع تذكر أحداث حدثت منذ وقتٍ قريب بشكلٍ دقيق؟

في سبتمبر عام 1984، دخل شخص غريب إحدى المنازل بكاليفورنيا من خلال نافذة مفتوحة، فوجد إحدى السيدات نائمة في البيت، فقام بمحاولة الاعتداء عليها واغتصابها، فعندما صرخت واستيقظ أهل البيت، فر المعتدي هربًا. في نفس اليوم جاءت الشرطة لتأخذ أوصاف المعتدي، فوصفت السيدة شابًا أسمر طوله حوالي 175 سم، في شعره ضفائر صغيرة ويرتدي قبعة بيسبول زرقاء.

بعدها، وجد الضباط الذين يجوبون الحي شخصًا يقف بجانب سيارة على بُعد شارع من المنزل الذي تم فيه الإعتداء. قال هذا الرجل الذي يدعى ”جوزيف بيسلي“ أن سيارته تعطلت في هذا المكان وأنه كان ينتظر المساعدة من أي شخص، لكن السيدة التي تم الإعتداء عليها تعرفت عليه بصفته المعتدي.

في اليوم التالي، جاءت ”د. إليزابيث لوفتوس“، أستاذة علم النفس بجامعة كاليفورنيا، وبدأت في التحدث مع جميع الأطراف، حتى جاء يوم المحاكمة وشهدت في صالح ”بيسلي“ وبالفعل تم تبرئته، ولم يكن هو المعتدي، ما الذي جعل السيدة المعتدى عليها تتهمه إذًا؟ الإجابة هي الخوف، الخوف هو الذي تحكم في عقلها في وقت الحادث، فلم ترى جيدًا من اعتدى، لأنها لم تكن في حالة طبيعية تمكنها من رؤية الشخص المعتدي بشكل جيد. لذلك عندما استجوبتها الشرطة، بدأت في وصف شخص يمكن أن تنطبق أوصافه على عدد كبير من الرجال في هذه الفترة. الذاكرة في هذه الحالة مخادعة جدًا، خطأ واحد فقط كاد يدمر مستقبل شخص لم يرتكب هذه الجريمة، لمجرد أنها في لحظة الخوف تصورت أنه هو الذي قام بالإعتداء بعدما رأته.

الكلمات؛ أو كيف يمكنك أن تتحكم بذاكرة البشر؟

العقل شيء معقد، وأعقد ما فيه الذاكرة، فالتعامل مع هذه الذاكرة أمر ليس سهلًا على الإطلاق. انطلقت ”د. لوفتوس“ من هذا المنطلق بحثًا عن حدود قدرة العقل البشري والذاكرة بشكل محدد. قالت ”لوفتوس“ أن الكلمات التي يستخدمها بعض البشر في أسئلتهم لشهود العيان تخدع أحيانًا، واستعملت حينها لفظ ”تلويث الذاكرة“ بمعنى تضليل الشاهد من خلال الكلمات فقط.

في عام 1974، كتبت لوفتوس دراسة تفيد بأنه يمكن التأثير على الشاهد من خلال الكلمات، فعرضت على بعض البشر مقاطع لحوادث سيارات من أفلام، وبدأت تستجوب كل مجموعة على حِدة، فسألت المجموعة الأولى ”كم كانت سرعة السيارات عندما حطمت بعضها؟“ فكانت تقديراتهم للسرعة أعلى ممن سألتهم باستخدام كلمة ”صدمت“ بدلًا من حطمت، ومن سألتهم باستخدام كلمة ”احتكت“ بدلًا من حطمت سجلوا أقل تقديرات للسرعة. بالرغم من أن المقاطع التي عرضت عليهم كانت واحدة، إلا أن تقديراتهم من خلال صياغة السؤال نفسها كانت مختلفة.

لم يتوقف الأمر بالنسبة لـ”لوفتوس“ عند هذا الحد، فدخلت ضمن تحقيقات أخرى تخص قضايا لها علاقة مباشرة بالذاكرة، منها قضية فتاة اتهمت والدها بقتل صديقتها بعد سنوات من الحادث، وقالت أنها استعادت ذاكرتها في أثناء العلاج النفسي. عندما تم استدعاء د. لوفتوس قالت بأن الأمر مريب جدًا، وانها قد قرأت بحثًا لكنه ليس موثقًا عن حالة تشبه هذه، لكنها ليست متأكدة. وبالرغم من شهادتها هذه أدين الأب وحكم عليه بخمس سنوات في السجن، قبل أن تعيد المحكمة حكمها مرة أخرى وتطلق سراحة بسبب شكوك حول رواية الفتاة (ابنته).

الذاكرة شيء معقد جدًا وعجيب بالفعل، لكن هل يعني ذلك أننا يمكننا زرع ذاكرة ما بداخل أحد العقول لم يمر بها الإنسان؟ تجربة لم يتفاعل معها بأي حاسة من حواسه لكن بالرغم من ذلك يتذكرها جيدًا؟  في المقال القادم سنحاول الإجابة على هذا السؤال.


المصادر:

  1. psychologytoday
  2. arabicedition
  3. youtube

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى