الذاكرة 1 : نقطة ومن أول السطر!
كتب: أحمد حسين
منذ عدة شهور، بدأ الفيس بوك بتقديم خدمة جديدة تتيح للمشتركين رؤية ما كتبوه منذ أن قرروا إنشاء حساباتهم إلى الآن. هذه الخدمة تقدم لك خط زمني بما كتبته أو شاركته في هذا اليوم من السنوات الماضية. عندما تبدأ برؤية هذه الكتابات أو ”الذكريات“ تبدأ بترديد سؤال واحد بشكل متكرر ”مين اللي كتب الكلام ده؟ هل أنا فعلًا اللي كتبته؟“ فلا يمكن لمعظم البشر تصور فكرة أن يكونوا هم أنفسهم من كتبوا نفس الكلام الذي يقرأوه لأنفسهم، بالرغم من أن الزمن الذي مر على كتابة هذا الكلام لا يتعدى العشر سنوات مثلًا وربما يكون أقل، إذن لماذا ينكر معظم الناس كتابتهم لهذا الكلام القديم، ويخيل إلى بعضهم أنه لن يطيق الجلوس مع صورته التي كان عليها منذ خمس سنوات لأكثر من خمس دقائق.
السؤال الذي يطرحه العقل غالبًا في هذه الأوقات هو ”هل أنا نفس الشخص اللي كان من تلات سنين بيقول الكلام ده؟“، وده معناه إن العقل بدأ يتشكك في ”الهوية الشخصية أو Personal identity“ الخاصة بيه. الهوية الشخصية للإنسان تعني حياته، من هو، وماذا يفعل في هذا العالم. الهوية الشخصية هي أي شيء يخص الإنسان سواء التصرفات أو المبادئ أو الأحلام أو الطموحات أو المخاوف، لكن ما علاقة الذاكرة بالهوية؟ العلاقة تكمن في كون الذاكرة هي مكان تخزين البيانات التي يحصل عليها الإنسان من خلال حواسه الخمس، هذه البيانات تشكل شخصية الإنسان التي يبني عليها كل شيء آخر في حياته.
عملية تخزين الذاكرة تبدأ منذ ولادتنا، فأي شيء نشعر به عن طريق حواسنا يتخزن لكن في صورة ذاكرة قصيرة المدى، وتبدأ في رحلتها إلى أن تصير ذاكرة طويلة المدى، ماذا يعني هذا الكلام؟ على سبيل المثال، عندما بدأت في تعلم كيفية ربط حذائك لأول مرة، رأيت أحدًا يربطه فحاولت تقليده، لكنك لم تنجح إلا في عقد عُقدة واحدة ولم تستطع إكمال الخطوات، بعد فترة بدأت تحاول مرة أخرى، تنظر كيف يفعلها الأخرون وتحفظ الخطوات، وهنا بدأت تنفذها بشكل أفضل، ومرة وراء مرة، بدأت تربط حذاءك بمفردك وبدون مساعدة من أحد وأيضًا بدون أن تتذكر الخطوات من الأساس، الموضوع بالنسبة لك أصبح تلقائي لاإرادي، بمعنى أن الذكرى التي بدأت قصيرة المدى تحولت داخل عقلك إلى ذكرى طويلة المدى.
أنواع الذاكرة
للذاكرة أنواع مختلفة غير الذاكرة طويلة المدى والذاكرة قصيرة المدى، فهناك مثلًا الذاكرة الضمنية، والذاكرة الإجرائية، والذاكرة المحددة، والذاكرة الدلالية، والذاكرة العرضية. وسنشرح الآن كل نوع منهم بالتفصيل:
– الذاكرة الضمنية (Implicit memory): يطلق عليها أيضًا الذاكرة الأوتوماتيكية أو ذاكرة اللاوعي، الذكريات في هذه الحالة يتم تذكرها بدون الرجوع لخطوات معينة، فهي في الغالب تكون تجارب سابقة تم تخزينها وتكررت حتى أصبحت شيء لا إرادي بالنسبة للإنسان (كمثال تعلم ربط الحذاء).
– الذاكرة الإجرائية (Procedural memory): هي جزء من الذاكرة طويلة المدى، مسئولة عن مهارات الشخص فيما يخص كيفية عمل الأشياء، مثلًا قيادة السيارات أو لعب كرة القدم أو اللعب على آلة البيانو، هذه المهارات ليست بالضرورة أشياء يمكن للإنسان وصفها، أو وصف كيفية عمل خطواتها لكنها في النهاية تتخزّن في عقله ويبدأ في فعلها بعد فترة بشكل طبيعي. فلا يمكن للاعب كرة القدم مثلًا، مهما تقدم به العمر، أن ينسى كيفية التسديد على المرمى بمهارة أو كيفية التمرير بالكعب إذا كان مهاريًا.
– الذاكرة المحددة (explicit memory): يطلق عليها أيضًا الذاكرة التقريرية (Declarative memory). هذه الذاكرة غالبًا ما تحتاج إلى مجهود أكبر في تذكر أحداثها بدقة، لأنها تتعلق بشكل مباشر بالأحداث المتكررة عبر زمن بعيد، بمعنى أن تذكر عيد ميلاد صديقك هو يوم الخميس القادم يحتاج لمجهود أكبر من تذكر أن غدًا هو يوم الأربعاء.
– الذاكرة الدلالية (Semantic memory): وهي النوع المختص بتذكر الأشياء المعروفة المتفق عليها، كمعرفة أن السماء لونها أزرق، أو معرفة ما هو الكلب، أو كيفية استعمال السكين، أو أسماء عواصم العالم المشهورة.
– الذاكرة العرضية (Episodic memory): وهي النوع المختص بتذكر الأحداث الخاصة في حياة كل إنسان، وهذه الذكريات غالبًا ما ترتبط بميعاد محدد أو إحساس معين أو مكان خاص. مثلًا أول احتفال بعيد ميلادك بعد الزواج، ستتذكر المكان والزمان والإحساس والناس الذين شاركوا في صنع هذا الحدث، لأنه يعتبر بالنسبة لك حدث خاص وهام في نفس الوقت.
أنواع فقدان الذاكرة
لذلك الذاكرة أمر هام جدًا بالنسبة لجميع البشر، فالذاكرة تعني _بشكل أو بأخر_ وجودك، كل الأحداث التي تعيشها وتمر بها تشكل وعيك وهويتك في النهاية، فترتبط الذاكرة دائمًا بالأماكن والأحداث التي تمت بها والمشاعر التي غمرتك بسبب وجودك في حيّز مكاني معين. لذلك فقدان الذاكرة يعتبر موت، موت حقيقي للإنسان، كقصة ”هنري موليسن“ الذي لم يعد يتذكر أي شيء لأكثر من 5 ثوانِ.
قبل أن نحكي قصة ”هنري موليسن“ علينا أن نقول أن فقدان الذاكرة أيضًا أنواع، وأن أسبابه متنوعة كذلك:
– فقدان الذاكرة التقدمي (Anterograde amnesia):
ويعني عدم قدرة الإنسان على تخزين ذاكرة جديدة، بمعنى أن العقل يتوقف عند تخزين الذاكرة قصيرة المدى، فلا تتحول أبدًا إلى ذاكرة طويلة المدى. سبب هذا النوع من فقدان الذاكرة غالبًا ما يكون تعرض الشخص لحادث قوي أثرّ على المخ أو صدمة قوية جدًا أدت لنفس النتيجة، لذلك يستطيع المريض في هذه الحالة تذكر كل ما كان قبل الحادث ولا يستطيع تذكر أي شيء بعده (أفلام مثل فاصل ونعود وMemento وحالة هنري موليسن مثالًا).
– فقدان الذاكرة التراجعي (Retrograde amnesia):
وهو عكس فقدان الذاكرة التقدمي بالضبط، بمعنى أن المريض ينسى كل ما قد مر به قبل الحادث/العملية لكن يستطيع فقط تذكر ما بعده.
– فقدان الذاكرة العابر/المؤقت (Transient global amnesia):
واحد من أمراض فقدان الذاكرة النادرة، لأن المصاب به لا يستطيع تخزين ذاكرة جديدة وينسى أيضًا الأحداث القديمة أو يتذكرها بصعوبة لكن لفترة مؤقتة من الزمن ثم يعود إلى طبيعته مرة أخرى بعد فترة.
– فقدان الذاكرة الناتج عن صدمة في الرأس (Traumatic amnesia):
وصدمة في الرأس هنا بمعنى أنها جاءت نتيجة أصابة قوية في الرأس أثرت بشكل قوي على المخ مما يؤدي غالبًا إلى دخول المصاب في حالة فقدان وعي لفترة طويلة.
في المقال القادم سنحكي قصة ”هنري موليسن“ أشهر من فقد ذاكرته في التاريخ.
___________________________________________________
المصادر: