.
حيّ يرزق

دب الماء لا يفنى ولا يستحدث من العدم!

كتب: أحمد حسين

في عام 1702 ميلاديًا، اكتشف العالم الهولندي ”أنتوني فان ليفينهوك“ أن هناك كائنات دقيقة جدًا، طولها لا يتعدى واحد ملّي تقريبًا تعيش بداخل الماء، ظهرت هذه الكائنات تحت المايكروسكوب عندما بدأ فان ليفينهوك إضافة بعض الماء إلى بعض التراب الذي أخذه من سطح منزله، حيث بدأت _هذه الكائنات_ تنشط وتتحرك في الماء بسهولة.

بعد ذلك بحوالي 71 سنة، تم اكتشاف الـ”تارديجرادز“ أو دب الماء عن طريق رجل دين ألماني وخبير في علم الحيوان يدعى ”جونن أوغست“، بعدها بثلاث سنوات تم إطلاق اسم ”il Tardigrado“، أي بطيء المشي أو Slow-stepper، علي دب الماء عن طريق رجل الدين والعالم الإيطالي ”لادزارو سبالانساني“، أول من اكتشف أن لهذه الكائنات قوة خارقة.

البقاء والعيش في الظروف الصعبة

أهمية ”التارديجرادز“ أو ”دب الماء“ ترجع إلى كونه الكائن الوحيد في العالم الذي يستطيع البقاء بل والعيش تحت ظروف شديدة القسوة والصعوبة! في عام 1948 فحصت خبيرة الحيوانات الإيطالية ”تينا فرانستشي“ جزءًا من طحالب مجففة موجودة بإحدى المتاحف، فوجدت على سطحها كائنًا دقيقًا لا يتحرك وفي حالة سكون دائم. بدأت تينا بإضافة الماء إلى الطحالب، فلاحظت شيئًا غريبًا، لاحظت أن القدمان الاماميتان للكائن الدقيق بدأت تتحرك وأنه بدأ يخرج من حالة السكون هذه إلى حالة نشاط.

لم يكن من المعقول أن يوجد كائن على وجه الأرض استطاع مقاومة الموت لمدة 120 سنة دون أن يحصل على الماء، وهو أمر أشبه بالمستحيل لدى الكائنات الأخرى! لذا ظلّ عقل العلماء متحيرًا من هذا الأمر، حتى جاء عام 1995 وقام بعض العلماء بإحياء عدد من كائنات الـ”تارديجردز“ والتي ظلت في حالة حوصلة (تقوقع) لمدة ثمان سنوات لمعرفة كيف يحدث هذا؟

برر العلماء هذا الفعل الغريب بأن دب الماء يمكنه أن يحافظ على ذرات ونواة الماء حول خلاياه لمدة قد تصل لمئات السنين عن طريق الالتفاف حول نفسه، لكن نقطة الضعف في هذه الحالة تكون أنه لا يستطيع أن يتحرك ولا أن يدافع عن نفسه ضد أي شيء، بمعنى أنه إذا هاجمه كائن دقيق أخر يمكن أن يصيبه بشكلٍ ما. لكنه في النهاية كائن دقيق جدًا لذلك يمكنه الاختفاء بشكل جيد.

هذا الكائن يمكنه أيضًا أن يعيش في درجات حرارة قد تصل إلى (272-)  درجة تحت الصفر، بمعنى أنه يستطيع أن ينجو في درجة حرارة تقترب من الصفر المطلق، وهذا لم يحدث لأي كائن حي من قبل، بالرغم من أن الثلج يؤثر عليه بشكل مباشر، بمعنى أنه إذا تجمدت خلاياه (دخلت كريستالات الثلج إلى خلاياه) سيهلك حمضه النووي (DNA) ويموت، لكنه بشكلٍ ما يستطيع الحفاظ على نفسه لمدة طويلة، فعند وضعه في درجة حرارة 200-  ظل على قيد الحياة لمدة 21 شهر، وكلما زادت درجة الحرارة قلت مدة وجوده على قيد الحياة، لكنه في النهاية يعود إلى الحياة في اللحظة التي يلمس فيها جسده الماء.

بالرغم من أن بعض الحيوانات _السمك مثلًا_ تستطيع أن تنجو في درجات الحرارة المنخفضة عن طريق إنتاج خلاياها لمواد بروتينية مضادة للتجمد، فتنخفض درجة تجمد الخلايا لتحافظ على نفسها من تكوّن الثلج عليها. لكن دب الماء لا يفعل هذا، ويستيطع أن ينجو من الظروف التي لا تستطيع الأسماك النجاة منها، ولا يعرف العلماء حتى الأن كيفية بقاءه حيًا في هذه الظروف القاسية.

العجيب في هذا الكائن أيضًا أنه ينجو في درجة حرارة عالية جدًا تتخطي الـ 150 درجة مئوية، وهذا أعلى بكثير من الدرجة التي قد تنجو منها البكتيريا، فالبكتيريا يمكنها أن تنجو في درجة حرارة قد تصل إلى 120 درجة مئوية لكنها لا تستطيع البقاء على قيد الحياة في درجة حرارة أعلى من تلك. المدهش في الأمر، أن هذا الكائن الدقيق له جهاز عصبي يمكنه من خلاله أن يشعر بهذه الحرارة العالية، بعكس مثلًا البكتيريا التي لا تمتلك جهازًا عصبيًا بل بعض المستقبلات الحسية التي تمكنها من رصد البيئة المحيطة والتواصل مع بعضها البعض، لذلك يمكنها النجاة في الحرارة العالية.

ليس هذا فحسب، دببة الماء أيضًا يمكنها أن تنجو من ضغط المياه العالي، وفق أبحاث تم نشرها في جامعة كنجاوا باليابان، أن هذه الكائنات الدقيقة قد نجت من ضغط المياة العالي (وصل إلى 600 MPa) عندما تعرضت له، ما يعني أنها يمكنها العيش في قاع المحيط الهادي على عمق يصل لأكثر من 10,000 متر، والذي قد يصل فيه ضغط المياه إلى 100 MPa فقط. دب الماء يمكنه أن ينجو تحت ضغط يصل إلى ستة أضعاف هذا الضغط دون أن يهلك أو تتحطم خلاياه.

البقاء حيًا في الفضاء دون حماية

في عام 1964، قام بعض العلماء يتعريض كمية كبيرة من دب الماء إلى كمية كبيرة من الأشعة السينية (X-ray) فما كان من التارديجرادز إلا أن نجت منها كالعادة، بل وبعضهم نجا من هذه الأشعة حتى بدون الحاجة إلى الدخول في حالة التقوقع، لكن هذا لم يكن كافيًا بالنسبة للعلماء.

في عام 2007، أرسل قمر صناعي يحتوي على عدد كبير من هذه الكائنات إلى الفضاء، ثم بدأت هذه الكائنات في التعرض إلى كميات ضخمة جدًا من الأشعة السينية والأشعة فوق البنفسجية التي لا يستطيع أي كائن حي التعرض لها والبقاء حيًا، لكن التارديجرادز _بالرغم من أن عددًا منهم مات_ إلا أن عددًا آخر منها عاش، بل وتكاثر وعندما عادت البويضات إلى الأرض وجدوا أن الدببة المائية التي خرجت من البويضات تنمو بشكل طبيعي جدًا.

بعض العلماء _وإن كانت مجرد فرضية_ قالوا أنه بما أن هذه الكائنات، نجت في الفضاء دون أي شيء يحميها، فمن الممكن أن تكون قد جاءت إلى الأرض من كوكب المريخ بما أنه قد تم اكتشاف مياه على سطحه، وحتى من قبل الإنسان لأن عمر هذه الكائنات الافتراضي حوالي 500 مليون سنة، فتكون قد انتقلت للأرض عن طريق السباحة في الفضاء لمئات السنين، فهذا الكائن يمكنه أيضًا أن يتحرك في الفراغ، فالجاذبية لا تؤثر عليه بقوة.

دب الماء، الكائن الخارق، الذي يمكنه النجاة في أعلى درجات الحرارة، وأقلها، يمكنه النجاة في أعماق المحيط، وأعلى الجبال، يمكنه النجاة في صحاري الشرق، أو ثلوج الشمال، يمكنه النجاه في الأرض، أو حتى في الفضاء. جائز أن كل هذا يحدث نتيجة صغر حجمه، أو قدرته على التقوقع والالتفاف حول نفسه، أو حتى بسبب جلده السميك، العلماء لا يعرفون السبب بالضبط، لكن ما يعرفونه _ونعرفه_ جيدًا، أنه يمكنه البقاء في أي مكان وتحت أي ظرف.


المصادر

Footer

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى