.
مشاركات حرة

”ماما أنا سبت الشغل“ أتيكيفوبيا يا حوستي السودا يانا يامّا!

كتبت لنيون: جيلان صلاح سلمان

14922910_1854682051421166_1681709437_o


لم أشعر بأي اختلاف. ولكني كنت أعلم أني سأعاني قريباً من صعوبات في التكيف، مثل رجل انتشلوه على عجل من أعماق البحر. بعد أن عشتُ في القفص، اقتربتُ من الفتحة وطرتُ -مثل رصاصة في السماء. السماء؟

تشارلز بوكوفسكي – مكتب البريد (ترجمة ريم غنايم)

من سنتين، أول نوفمبر كنت قدمت استقالتي من شغلة حكومية مضمونة وبشهادتي. في الواقع، ورغم تظاهري بالعكس القرار كان وقتها مش محسوب إطلاقاً، كنت بحيي زميلاتي –معظمنا كان ستات- وأنا ببتسم في ثقة ومن جوايا بعيط. كل اللي كنت أعرفه إني مينفعش أستنى في المكان ده دقيقة ثانية، بس دي مش أسباب إنك تسيب شغل، خصوصاً لو مش مظبط شغل تاني. في مصر الحياة غالباً مرسومة بالقلم والمسطرة، في بنات بتصاحب ولاد مرحلة انتقالية لحد ما تلاقي العريس المناسب، ويكون عندها استعداد بسهولة تقلب من محجبة/ما بتحطش صور على فيسبوك/خجولة/مطيعة إلى فتاة منطلقة/بتتصور وهي بتحضن حبيبها في شهر العسل/فرحانة بشعرها وانطلاقها في أقل من شهر، ولو لقيت عريس مناسب يرجعها للخانة الأولى عادي بتتأقلم. في ناس بتتفق على شغل بابتسامة مشجعة وحماس جنوني ويكونوا أصلاً قبلوه كنوع من الكوبري لشغل تاني، ده طبعاً مش عيب ولا حرام، بس هي مهارة مصرية للأسف لا أتمتع بها.

الحياة في مصر عايزة شخص دائماً بيتأقلم، لأنها ما بتثبتش على حال. بس أنا عمري ما اتأقلمت. خلال سنتين التكليف اللتين قضيتهما في المبنى الحكومي، كنت بروح الشغل وأرجع البيت وأنا لافعة البالطو على كتفي. كان فيه دولاب كل الناس بتسيب البلاطي البيضاء فيها، والشهادة كان دولاب نظيف جداً، بس أنا بالنسبة لي لا يمكن كنت أسيب البالطو، لا يمكن كنت أنتمي لمكان بحلم من أول يوم دخلته إني أسيبه. الخلاصة إني سيبته في حالة نفسية سيئة جداً. أنا عندي اكتئاب خفيف، الفترة دي فعلاً أوصلته لمدى لا يمكن تخيله، ما كنتش بخرج من أوضتي تقريباً، وزاد استهلاكي للكافيين والسكريات، ومن ساعة ما زاد وزني وقتها مش عارفة أرجعه زي ما كان الأول 😀

وقعت تحت إيدي رواية منقذي وشاعري المفضل –وقتها ما كنتش أعرف عنه حاجة- الأمريكي تشارلز بوكوفسكي ”مكتب البريد“؛ واللي شبه سيرة ذاتية عن عمله في جهة حكومية –يرويها الأنا الآخر له ويدعى هنري تشيناسكي- كساعي بريد وإزاي سابها عدد من السنوات، وعاد إليها مرة أخرى لأنه ماقدرش يعيل نفسه مادياً. هو صحيح بوكوفسكي كان قمارتاجي وبيصرف كل فلوسه تقريباً في المراهنات على الخيول، واللي كان مراهن أصلاً إنه يعيش منها ومن نشر قصة هنا ولّا ديوان شعر هنا. لكن أنا كمان كنت مخمنة إن الحياة ممكنة من نشر قصة أو قصتين، ترجمة مقال أو اثنين، كلنا بوكوفسكي وبنقامر على الحصان الغلط.

في البداية روح بوكوفسكي القلقة ماستحملتش حياة موظف الحكومة بهيئة البريد، سابها قبل ثلاث سنين من الخدمة، بس لما رجعلها كانت الرجعة، وقضى فيها فوق العشر سنين. لما وقعت عيني على الجملة السابقة أعلى المقال، انتابتني نوبة بكاء. أول مرة يمكن من فترة أشعر بقوة الأدب والفن عامةً، إزاي ممكن شخص مات قبل ما أنت تتولد، وعاش في زمن غير زمنك وحياة مختلفة تماماً عن حياتك، يوصف اللي أنت حاسّه بالضبط، يكون مر بنفس التجربة اللي مريت بها. حاجات كثير جداً وصفها بوكوفسكي في الرواية عشتها بالحرف أثناء عملي؛ وصفه للموظفين أثناء عملهم، المرض الغير حقيقي الناتج فقط عن التعاسة المهنية. في جملة وصف تشيناسكي حاله “هذه العمل قتلني”، وافتكرت سيل الأمراض اللي توهمت إصابتي بها أثناء شغلي.

سألت نفسي عن الأسباب اللي دفعتني ودفعت بوكوفسكي للأحاسيس البشعة اللي مرينا بيها بعد ما تركنا العمل بكامل إرادتنا، اكتشفت نوع من الفوبيا، وهو فوبيا الفشل أو الرفض ”أتيكيفوبيا Atychiphobia“. وأقدر أؤكد إن هو ده اللي أصابنا.

إحساس الضياع والتيه والرعب بعد اتخاذ قرار زي ترك وظيفة حكومية، يمكن ميزتها الوحيدة إنك بتشتغل وأنت ضامن 100% استحالة رفدك، واحد من أعراض الأتيكيفوبيا. إضافة على ده، أثناء شغلي كنت سمعت عن شخص اتفصل لأنه شتم مديره أو حاجة كدة، ورفع قضية وكسبها وعاد لشغلته تاني. صحيح تراب الميري دلوقتي أصبح دهب، ومابقاش حد يقدر يشتغل في الحكومة لأنهم قفلوا التعيين، لكن وقت ما أنا اتعينت كانت الأمور أسهل كثير عن دلوقت، وكإن الناس اللي جوا Government employees club حاسين بإحساس انضمامي لذيذ؛ أحنا هنا وماحدش يقدر يرمينا برة.

وليه الخوف من الرمي برة؟ طبقاً لموقع All About Counseling، الأتيكيفوبيا هي خوف لاعقلاني من الفشل، ممكن يوقف الإنسان من استكمال مسيرته في أي حاجة هو غير متأكد من نجاحه فيها. المحصلة صفر، لأنك مش متأكد من أي حاجة في أي حاجة، وحتى لو نجحت في شيء مرة، ممكن تفشل فيه بعد كدة؛ كام مرة سمعنا عن مخرج أخرج فيلم عبقري وماسمعناش عنه بعد كدة، أو حد كتب كتاب وهمي وكانت هي الفرقيعة الوحيدة في حياته. طبعاً، ما يمنعش إن النجاح سلسلة من الخطوات اللي بيسير عليها الانسان بدقة، ومحاولته لضبط معايير المعادلة، وامتلاكه لرؤية بعيدة المدى، لكن الحياة دائماً غير متوقعة؛ مرض، جوازة، طلاق، أي حاجة، ممكن تكون الموجة التي تطيح بكل اللي فات ده.

السؤال، إيه أعراض الأتيكيفوبيا؟

زي أي متلازمة توتر اجتماعي تانية – Social anxiety disorder، قلق ذهني شديد، اضطرابات حادة في الجهاز الهضمي، صداع، آلام في العضلات، وهلع ينتج عنه اضطرابات تنفسية، وحلق جاف، وعرق، وغثيان. عادة ممكن المريض يصل للانهيار العصبي عند مطالبته بأي مهمة جديدة هو يخشى الفشل فيها. ولتجنب أداء المهمة دي، هيتجنب يعيش حياته كلها، يتجنب يجرب شغل جديد، يتسبب في ضياع ترقية منه بسبب عدم رغبته في المخاطرة المهنية أو الاضطلاع بمشروع جديد مثلاً احتمال فشله فيه كبير –زي احتمال نجاحه بالضبط- يقرر عدم التقرب من بنت بيحبها –أو ولد بتحبه- خوفاً من الفريندزون أو أي هبل آخر، خوفه حتى من إنه يستقيل من شغل يكرهه لخوفه من فشله بعد الشغل ده.

أهم شيء عبر به بوكوفسكي عن الرعب والأتيكيفوبيا، هي الجملة اللي وصف بها نفسه بعد ما ساب الشغل  ”طرتُ مثل رصاصة في السماء“. لم يصف التحليق والحرية بالجمال الشاعري اللي دائماً ارتبط بيهم، بل على العكس، أحياناً الحرية بتكون مرعبة، مخيفة حتى في تساؤله السماء؟ كأنك شايف قدامك هلعه من الخروج للعالم من غير الأمان الوظيفي الحكومي على تعاسته، وعلى مناوراته مع الرؤساء والزملاء المتصارعين على كعكة، بالنسبة لأمثال بوكوفسكي هي كعكة هايفة وممكن حقيقي حقيرة، لكنها ممكن تكون أقصى طموح الزملاء، واللي عشانها ممكن يدوسوا عليه وعلى أي غر ساذج لسة متقدم للوظيفة جديد.

طبيعي ومش محتاجة إحصائيات، إن معظم المصابين بالأتيكيفوبيا بيصابوا باكتئاب حاد بعدها. أقدر أؤكد ده عن تجربة، ومن قراءتي عن حياة بوكوفسكي، المنتمي لجيل ”حركة البيت“ Beat generation (الجيل الضائع) الأدبية في أمريكا الخمسينيات، أكثر حتى من أهم شعرائها آلان جينزبرج وجاك كيرواك وغيرهم –على الرغم من رفض بوكوفسكي الانضمام لأي جماعة، واستخفافه بشعراء البيت على وجه الخصوص- اكتشفت إنه أصيب بالاكتئاب وأمراض نفسية أخرى كثير، أغلبها من الحياة الصعبة اللي عاشها، إهانة جسدية ونفسية على يد والده، إدمان للكحول والجنس، حياة الشخص الفاشل الصعلوك زي ما الكتاب قالها، لكن بجزء كبير، شغله في مكتب البريد الممل بخطاباته الرسمية التقليدية وفي نفس الوقت بثباته وأمانه أثروا فيه، وإلا ماكانتش الدفعة الوحيدة اللي احتاجها للكتابة هي إنه يستقيل بعد عشر سنين من الخدمة في العمل الحكومي الأمريكي. واللي بها أنهى روايته العظيمة،

كان الصباح على نحو العادة وكنت لا أزال على قيد الحياة.

لعلّي أكتب رواية، قلتُ في نفسي.

وهذا ما فعلت.

أما أنا، استمديت القوة من بوكوفسكي، واشتغلت على مجموعتي التي أصبحت كتابي الأول ”هكذا تكلمت لا لوبا“، وبحاول أكون في نفس شجاعته وأنا بكتب روايتي، وأستمد من واقعي أهم ما فيه، وأمزجه بالخيال عشان يخرج منه عالم تاني ممكن يلهم بنت –أو ولد- تيجي تقرأه بعد ما أموت وتلاقي صوت بيتكلم باللي جواها من غير ما يتلاقو أبداً.

أوكيه، بعيد عن حبوب الشجاعة اللي أخذتها، هل فيه علاج؟

أيوة، اللي بوكوفسكي عمله ومن بعده yours truly. الخطوة الكبيرة، الفيل في ركن الغرفة، الصندوق المغلق يتفتح. كل دي مجرد عناصر في الرحلة اللي لو ما مشيتش فيها مافيش علاج. لا عقاقير ولا يحزنون، مجرد بس إنك تستمر، تأخذ أي خطوة أنت خايف منها حتى لو سامع عظامك بتتكسر، وقلبك وقع في رجليك، وشفايفك بتترعش. خذ الخطوة. حتى لو دة كلام إنشاء من بتوع التنمية البشرية، هو حقيقة، أحياناً الخوف من الغرق بيكون دافع للموت، ومحاولة إنك تعلى فوق موجة أطول منك ومن جدودك بيكون هو الوسيلة الوحيدة إنك تشوف الأرض، بعد سنوات من السباحة ضد التيار.

مصادري:

allaboutcounseling.com

 shortlist.com

مكتب-البريد–لشارلز-بوكوفسكي

 psychologyofsuccess.org

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى