.
الملف

الذاكرة 3 : زراعة الذاكرة ممكنة؟

كتب: أحمد حسين

في المقال اللي فات اتكلمنا عن هنري موليسن وسر حالته العجيبة وبقائه في سن الـ27 طوال العمر، كمان اتكلمنا عن الخوف وعلاقته بالذاكرة، وإزاي الذاكرة هي شيء عجيب بالفعل، لكن هل يمكننا فعلًا زرع/غرس ذاكرة داخل عقل أحد الأشخاص؟ هل نقدر نخليه يتذكر أحداث لم يتفاعل معاها بحواسه الخمسة أبدًا من قبل؟

بينكي وبراين

عام 2014، تم منح جائزة نوبل في الطب لثلاثة من أشهر علماء الأعصاب في العالم (جون أوكيف – ماي بريت موزر – إدفرد موزر) بسبب إسهاماتهم في مجال طب المخ والأعصاب؛ بحث نشروه عام 1971 عن الأنشطة العصبية للحصين عن طريق زرع أقطاب كهربائية في حُصين بعض الفئران ومراقبة أنشطتهم اليومية.

وضع العلماء فأرين (لنسميهم بينكي وبراين) في قفصين منفصلين وراقبوا تحركاتهم، سلوكياتهم، وتصرفاتهم في خلال يومهم العادي، ثم بدأوا في تنبيه حواسهم في أماكن معينة من القفص عن طريق الصافرات أو الطرق على القفص مثلًا، بعدها بيسيبوهم. في اليوم التاني وجدوا أن أماكن معينة في الحصين لدى الفأرين بدأت بتسجيل نشاطات عصبية، الأماكن دي كانت الأماكن التي شعر فيها بينكي وبراين بالإزعاج نتيجة الطرق على القفص أو الصافرات المزعجة، معنى كده إنهم هيتذكروا الأحداث اللي حصلت في اليوم التاني وهيتفاعلوا معها مرّة تانية.

في السنوات التالية، بدأ جون أوكيف البحث وراء الأمر بشكل أعمق، ففكر في استغلال الذاكرة، بمعنى زرع ذكريات بداخل أحد الفأرين دون أن تكون لهذه الذاكرة أي تفاعل يذكر مع الحواس الخمس. بدأ جون بإرسال إشارات عصبية لأحد الفأرين (ليكن براين)،  لتساعد العقل على إفراز هرمون الدوبامين (هرمون النشوة)، ثم بدأ يراقب رد فعل براين على هذه الإشارات، وجد جون أوكيف أن براين عندما ينام ويصحو، ويبدأ في التجول في القفص يقف كثيرًا عند الأماكن التي شعر فيها بالسعادة نتيجة الإشارات التي ساعدت على إفراز الدوبامين، بمعنى أنه يتذكر جيدًا أن هذا المكان حدثت فيه ذكرى سعيدة لذلك يبقى فيه مدة أطول، بعكس بينكي الذي ظل يدور ويدور حول نفسه كعادته كل يوم دون أن يتوقف في أي مكان لمدة طويلة.

في الأيام التالية، تم إعادة التجربة مِرارًا وتكرارًا، كل يوم يقف براين في الأماكن التي شعر فيها بالسعادة نتيجة إفراز الدوبامين، بينما بينكي يظل يدور ويدور حول نفسه. بعدها، قرر أوكيف نقلهما إلى أقفاص جديدة، فبدأ الاثنان رحلة من الدوران بشكل عادي وطبيعي، يستيقظون من النوم ويبدأون الدوران حول المكان بلا توقف، ثم بعد أيام قرر أوكيف أن يعيدهم إلى أقفاصهم القديمة مرة أخرى، وحدثت مفاجئة، لم يتوقف براين لوقت أطول عند الأماكن التي شعر فيها بالسعادة فحسب، بل ذهب إليها مباشرًا دون أن يدور حول المكان حتى.

زراعة الذاكرة .. النسخة البشرية

هذا يعني أننا يمكننا زرع الذاكرة بالفعل بداخل العقل، دون أن يتم التفاعل عن طريق الحواس الخمسة أبدًا، لكن هذا يحتاج إلى أن نفتح جمجمة أحدهم ونضع بداخلها أقطاب الكترونية صغيرة، وأظن أنه لا يوجد شخص عاقل قد يوافق على خوض تجربة مثل هذه، لذلك عندما نريد زرع ذاكرة بداخل عقل البشر نحتاج لأن نزرعها دون أن نفتح جمجمة أحد.

في عام 2002، قامت (د. كيمبرلي وايد)، أستاذة علم النف،  بدراسة عندما كانت في جامعة فيكتوريا بنيوزيلاند عن زراعة الذكريات التي لم نمر بها من قبل، فطلبت من بعض الآباء صورًا لأبنائهم وهم صغار، وعدّلت الصور بالفوتوشوب بحيث يظهر الطفل وكأنه ركب المنطاد مع والده مثلًا، وبدأت تسأل هؤلاء الأبناء عن هذه الذكرى، وقامت بهذه التجربة على عينة مكونة من أربعة، اثنان تفاعلوا مع الصورة وقالوا أنها حقيقية وأنهم يتذكرون هذا الحدث، والأخرين قالوا أنهم لا يتذكرون ركوب المنطاد من قبل. معنى ذلك أنها استطاعت زرع ذكرى لم تكن موجودة من الأساس في عقل 50% من الحالات التي قامت بدراستها.

هل هذا معناه مثلًا أنني يمكنني محاسبة شخص جنائيًا على فعل أو حدث يمكن أن يكون ملفقًا له وزرع بشكلٍ ما في ذاكرته؟

الإجابة على هذا السؤال معضلة حقيقية، فهو يدخل بشكل مباشر تحت بند (الهوية الشخصية) معنى أن يتم زرع ذكرى ما في عقلك دون أن تدري يعني أنه تم انتهاك هويتك الشخصية بشكلٍ ما، إما عن طريق الحكي المؤثر مثلًا من شخص قريب، أو عن طريق تعاطي مواد مخدرة أدت لتلف ما في جزء من الذاكرة. لكن يبقى الأمر مجهولًا ومعقدًا جدًا.

في أحد أبحاث د. لوفتوس قالت أنه من الممكن زرع/غرس ذكريات معينة بداخل عقل أحد البشر، عن طريق ربط هذه الذكرى بحدث مهم في حياته سبب له صدمة قوية، أو ربط فعل معين له بفعل آخر مثير للغثيان، كربط شرب الفودكا بالغثيان مثلًا، فيتوقف الشخص بعد فترة عن شرب الفودكا تلقائيًا لإحساسه بالغثيان من مجرد رؤيتها. لكن هذه الأمور _بحسب د. لوفتوس_ لم تتم من قبل وإذا تم سيكون هذا انتهاكًا صريحًا لفكرة الهوية الشخصية، وربما يؤدي إلى عواقب غير متوقعة.


المصادر:

  1. sitn.hms.harvard
  2. link.springer
  3. arabicedition.nature
  4. youtube

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى