الخرافة والأمراض العقلية: عين الحسود فيها عود
كتب: أحمد حسين
في الغابة، بدأت بعض الفتيات المراهقات في الرقص بشكلٍ غريب، واصدار أصوات تشبه نُباح الكلاب، والدوار في حلقات، والصراخ بشكل هستيري، وبأصوات عجيبة. عندها بدأ الناس في القلق من هذا الأمر، فاستدعوا الأطباء والقساوسة لتشخيص حالة الفتيات، فقالوا أن الفتيات وقعن تحت تأثير السحر، وأن هناك من هو مسئول عن هذا السحر ويجب محاكمته. كان ذلك في مدينة “سايلم” عام 1692، تمت في ذلك العام أشهر محاكمة للسحرة في التاريخ، سُميت باسم “محاكمة ساحرات سايلم”.(1)
المس السفلي: بداية المسّ صرخة
الحكايات التي تُروى عن المس السفلي كثيرة، منها أن المريض يبدأ في التشنج بشكل مُرعب، ينزل على الأرض ويتحرك ويصرخ بشكل هستيري، وأحيانًا أخرى ينكتم صوته، وتتوسع حدقة عينه. عند حدوث ذلك، يبدأ الأهل في القلق، فيلجأون إلى أحد المشعوذين والدجالين لأنه الطريق الأقصر لحل المشكلة دائمًا، والذي عادةً ما يخبرهم بأن ابنهم ممسوس، ويبدأ في تلاوة كلمات بلغة غريبة!
في بعض الحالات الأخرى يتم تحضير حلقة لرقصة “زار” كي يخرج الجن من جسد المريض، وعندما يصاب المريض في أثناء الرقص بنوبة تشنج، يبدأ المشعوذ/الدجال في ضربه بقوة لدرجة قد تفقد المريض وعيه تمامًا. يمكن لنا أن نتخيل لهذا كله أن يحدث في القرن الثامن أو التاسع عشر مثلًا، لكن الآن أقلما يمكن فعله أن يذهب أهل المريض بابنهم لطبيب أمراض نفسية وعصبية ليتم تشخيص حالته بشكلٍ دقيق، أغلب هذه الحالات على سبيل المثال تم تشخيصها على أنها “نوبات صرع”.
يقول “د. لطفي الشربيني” استشاري الطب النفسي، أنه تم استدعائه لإحدى الحالات، فتاة في العشرين من عمرها، وجدها فاقدة الوعي، وعلى جسدها آثار كدمات نتيجة لضرب مُبرح، وعندما سأل أقاربها عن سبب ذلك، قالوا أنها ظلت تعاني من تشنجات لعدة أيام، فذهبوا بها إلى أحد المشعوذين، فأكدّ لهم أن السبب هو مس الجن، والحل في الضرب، فأخذ ينهال بالضرب عليها بعصا غليظة في كل مكان في جسدها كي يتعقب الجن حتى يخرج، في النهاية فقدت الفتاة الوعي فأخبر هذا المشعوذ بأن خروج هذا الجن صعب، وأنها ستحتاج غالبًا إلى طبيب.
عندما كشف د. لطفي على الفتاة، وجدها مصابة بـ”نوبات صرع” نتيجة لخلل في موجات المخ الكهربائية بسبب شحنات زائدة تسببت في إثارة الخلايا العصبية مما يؤدي إلى نوبات من الصراخ أو التشنجات التي تؤدي في النهاية إلى فقدان الوعي بشكلٍ تام.
رواية أخرى مشهورة تُروى عند ذِكر المس الشيطاني (المس السفلي)، ألا وهي رواية أن المريض يرى أشياء تتحرك أمام عينيه، ويسمع أصواتًا تخاطبه ويخاطبها، وعندما يبدأ المريض في وصف أشكالها، راسمًا صور أشبه بصورة الشياطين المترسخة في أذهاننا، فذهابه للمشعوذين يصبح أمرًا حتميًا.
لكن _بحسب د. لطفي الشربيني_ فإن ما يحدث من استقبال المرضى لأشكال تتحرك، وأصوات تُسمع هو نتيجة لخلل مرضي يصيب مراكز الجهاز العصبي، وهو ما يُطلق عليه في الطب النفسي “الهلاوس السمعية والبصرية”، وتلك الرؤى والأصوات واحدة من أعراض هذا المرض العقلي وليست سببًا فيه، مما يجعلها بعيدة تمامًا عن تفسيرات مس الشياطين وغيرها من القوى الخفية.
عين الحسود فيها عود
مما يتداوله الناس أيضًا، فيما يخص مسائل الإصابات بالعجز عمومًا، أن هناك شخصًا ما قد حسدك، فقديما كانت الجدات تخبرنا بتلك العروس الورقية على شكل إنسان، والتي كانت تثقبها كي تُثقب عين الحسود، فيزول الحسد. فالحسد هو السبب الأسرع في القدوم على أذهاننا فيما يتعلق بكثير من أمور حياتنا بما في ذلك الإصابات، السقوط في الامتحانات، الفشل في إيجاد شريك الحياة، والفشل في الحياة التي تتضمن شريكًا، فكل ما يصيب الإنسان عمومًا يمكن اعتبار الحسد سببًا فيه، أو ربطًا سفليًا يجب أن يُحل عن طريق الشعوذة والسحر الأسود ربما.
لكن الأمر عكس ذلك تمامًا، ذكر “د. لطفي الشربيني” في ملاحظاته أن من يُرجعون السبب في إصابتهم أو تدهور حالتهم الصحية أو عجزهم عن القيام بأي مهمة في حياتهم للحسد، غالبًا ما يتم التأثير عليهم بالإيحاء، حيث تسيطر عليهم أفكارًا تصيبهم بالخوف فتجعلهم عاجزين عن القيام بما يريدون. السبب في ذلك غالبًا ما يكون خوفهم على ما يمتلكون، فالثري يخاف على ماله، والأم تخاف على أطفالها، والجميلة أو الوسيم يخافون على جمالهم. لذلك عندما يحدث لهم أي مكروه يحيلون السبب إلى أن من هم أقل منهم ثراءًا/جمالًا/موهبة/قدرة هم السبب في ما أصابهم نتيجة حسدهم الدائم لهم وتمنى زوال ما يمتلكون.
الخلفية الثقافية ووهم الخرافة والأمراض العقلية
من الأمور التي تشغل بال معظم أطباء النفس _خصوصًا في البلاد النامية_ هي التوعية بأهمية الطب النفسي من الأساس، ودوره في علاج الأمراض التي تصيب كيمياء المخ عن طريق العلاج بالأدوية وغيره. فالطب النفسي يعتمد بشكلٍ أساسي على الخلفية الثقافية للبشر، لأن مظاهر الاضطرابات النفسية غالبًا ما تتشابه مع الأعراض الموجودة في عقل كلّ منا عن المس الشيطاني، نتيجة لقصص الأجداد أو حتى أفلام الرعب، والتي تعتمد بشكلٍ مباشر على مدى تصديق البشر لهذه الأساطير.
لذا فالتوعية بأهمية الطب النفسي أصبحت الآن من الأمور المهمة، حيث يتم نشر ثقافة أن المرض النفسي _من الأساس_ لا يعني الجنون، وأن الإصابة بأمراض عصبية أوعقلية هو أمر يحدث للبشر وليس شيئًا غريبًا ولا مسًا سفليًا، فالهلاوس واضطرابات القلق ونوبات الصرع وغيرها من الأمراض _التي أصبح تشخيصها سهلًا/متاحًا بالنسبة للأطباء النفسيين_ من الأفضل أن يتم وضعها _بالنسبة للبشر_ في خانة المرض النفسي ولا داعي لوضعها في خانة الأساطير والمس والسحر وغيره مما قد يؤدي في النهاية إلى الضرب على يد مشعوذ أو دجال!
المصادر: