.
نوّرها

صراع الفلسفة والفيزياء بين التاريخ والعلماء!

كتب: أحمد حسين

في إحدى حلقات البرنامج التليفزيوني «Cosmos»، صرح عالم الفيزياء الكونية «نيل ديجريس تايسون» بأن الفلسفة شيء سخيف، وأنها يمكنها أن تكبح التقدم العلمي للفيزياء عن طريق «كثرة السؤال بشكل مبالغ فيه». يرفض تايسون فكرة أن الفلسفة علم من الأساس. لكن لم يكن الوحيد من ضمن الفيزيائيين الذي يكرهون الفلسفة ويقللون من شأنها.

في عام 2012، قال عالم الفيزياء الأمريكي «لورنس كراوس»، أن الفيزياء جعلت من الفلسفة شيء قديم قد عفا عليه الزمن، وأن الفلسفة كمجال تذكره بنكتة قديمة لوودي آلن تقول: «أن من لا يستطيع التدريس، يمكنه تدريس حصة الألعاب»، وأن أسوأ الأشخاص -بالنسبة له- هم من يحاولون دراسة العلوم بشكل فلسفي. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فعندما قام الفيلسوف «ديفيد ألبرت» بالرد عليه ومحاولة تأديبه، رد عليه كراوس بأن كلامه «غبي» وهو ما قضى على أي محاولات لتقريب وجهات النظر في ما بينهم.

أما الفيزيائي الشهير «ستيفن هوكينج» فقال إن الفلسفة علم «ميت»، أي أنه لم يعد مطلوبًا أو ذو قيمة الآن. كما أن الفيزيائي الشهير «ريتشارد فاينمان» وصفها بأنها علم «بليد» وتناولها بسخرية شديدة.

الفيزيائي الشهير “ريتشارد فاينمان”

لماذا يكره الفيزيائيون الفلسفة إلى هذا الحد؟ ولماذا كل هذا الهجوم؟

قبل أن نحاول الإجابة على هذه الأسئلة، يجب أن نسأل ما العلاقة أصلًا بين الفيزياء والفلسفة؟ العلاقة بدأت من أيام القدماء اليونانيين، كان المهتم بعلوم البيئة في ذلك الوقت يسمى «فيلسوف الطبيعة» بمعنى الشخص الذي يسأل أسئلة كبيرة حول فكرة الكون والطبيعة وما يحدث داخلهم وخارجهم.

هذه الأسئلة كانت تسمى «الميتافيزيقيا» أو «ما وراء الطبيعة»، لأن الأسئلة معظمها كانت تدور حول أشياء لا يمكن رؤيتها بالعين، عن ما وراء السماء وما تحت الأرض، فشغل الخيال حيزًا كبيرًا بالنسبة لفلاسفة الطبيعة قبل أن يتحول المعنى إلى كلمة «الفيزياء» والتي تعني باليونانية «الطبيعة».

الرابط التاريخي بين الكلمتين موجود، لكن لماذا يكره علماء الفيزياء الحديثة الفلسفة؟ هناك ثلاثة محاور يتحدث فيها الفيزيائي عند نقده للفيلسوف، المحور الأول أن الفلاسفة أشخاص مراقبون متأملون فقط لا يحاولون جمع البيانات أو عمل التجارب مثلًا، المحور الثاني هو أن الفيزيائيين لا يتعاملون أصلًا في تجاربهم مع النظريات الفلسفية، والمحور الثالث هو يهتمون بما هو غير مرئي بشكل مبالغ فيه، فهم لا يعبأون بما يحدث أمامهم ولكن كل تفكيرهم منصب على ما لا يستطيعون إدراكه.

الرأي شيء والواقع شيء آخر

لكن هذا لم يكن رأي علماء الفيزياء الحديثة كلهم، فمثلًا هناك عالم مثل «آينشتاين» -وهو الأشهر على الإطلاق بالنسبة لعلماء الفيزياء الحديثة- قال أن دراسة تاريخ العلوم وفلسفتها تجعل المرء أكثر تحررًا من فكرة التحيزات، وهذا التحرر مهم للتفكير الإبداعي.

قال أيضًا أن علامة التمييز بين الهاوي والمتخصص والباحث عن الحقيقة هو رؤيته للغابة على أنها أكثر من مجرد «أشجار»، هذا الكلام تحديدًا يخص الفلسفة أكثر من الفيزياء، لذلك كان آينشتاين متقبلًا لفكرة دراسة الفلسفة وربطها بالعلوم.

الفكرة أنه حتى العلماء المنتقدين للفلسفة والذين يسخرون منها طيلة الوقت قد استخدموها في وقتٍ من الأوقات، فـ«ريتشارد فاينمان» مثلًا استخدم الفلسفة في شرح محاضراته حول «خصائص القانون الفيزيائي» فتحدث عن فكرة منهجية العلم ومسيرة العلم غير المكتملة للبحث عن الحقيقة، وهو ما يعتبر كلامًا فلسفيًا تمامًا.

«نيل تايسون» أيضًا ورغم رؤيتة للفلسفة على أنها شئ سخيف إلا إنه عندما كان يشرح أفكارًا مثل الأكوان المتعددة وفكرة التعالق الكمّية (ومعناها أن هناك كتلتين في مكانين مختلفين يتصرفون على أساس واحد في نفس الوقت) شرح هذه النظريات على أساس فلسفي بحت!

العود الأبدي والنظرية النسبية

بعض النظريات الفلسفية قامت بالأساس على نظريات فيزيائية، مثلًا نظرية «العود الأبدي» لنيتشه. تتحدث هذه النظرية عن فكرة أن الزمن وهم، وأن الكون أسطواني الشكل ومضغوط، وأن دورة حياة الكون تعاد كل فترة، كشريط سينمائي لا يتوقف.

فكلما انتهى الفيلم بدأ مرّة أخرى، بنفس تتابع المشاهد وبنفس حركة الممثلين، ولا يمكن لهولاء الممثلين إدراك فكرة أنهم يعيدون نفس المشاهد أبدًا، لأنهم بداخل الفيلم. لذلك يجب مراقبة هذا من مكان خارج حيز الفيلم، كي تستطيع إدراك أنه يُعاد.

وكان رأي «نيتشه» أن هناك كائنات متقدمة بمراحل عنا يستطيعون رؤيتنا من هذه الأماكن التي تقع خارج الزمن العادي للكون، فالكون -بالنسبة لهم- أشبه بلعبة القطار الذي يدور حول نفسه ومن بداخله لا يدركون أنهم يدورون حول أنفسهم فقط.

الفيلسوف الألماني “فريدريك نيتشه”

هذه النظرية الفلسفية اعتمدت في طرحها بشكل أساسي على نظرية «النسبية الخاصة» لآينشتاين والتي تقول أن الزمن نسبي يتغير لكل كائن على حسب مكانه وسرعة تحركه. فهل يمكننا أن نقول هنا أن الفلسفة ليست علمًا وأنها فقط أخذت نظرية فيزيائية مهمة وحولتها إلى كلمات وأسئلة مبهمة وغير مفهومة؟

بحسب كثير من علماء الفيزياء الحديثة نعم، نيتشة اهتم بالجانب غير المرئي والبعيد تمامًا عن أي تجارب في النظرية ولم يطرح أسئلةً يمكنها المساهمة في تطوير النظرية مثلًا، لكن نيتشه رأى أنه يطرح الأسئلة المهمة والصحيحة، فماذا لو كان هناك بالفعل كائنات متقدمة تعيش في مكان آخر وتعرف ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا؟

هذا ما يفعله الفلاسفة كلهم تقريبًا منذ بداية الكون، يتعاملون مع القضايا الكبيرة على أنها مجموعة من الأسئلة الكبيرة تنتظر الإجابة. لكن في بعض الأحيان يختلف الأمر، فتجد أن الفيزياء هي الأخرى تأثرت بالفلسفة وبدأت تطرح الأسئلة أكثر ما تجيب.

مبدأ عدم اليقين وعلاقته بفلسفة الشك لديكارت

مبدأ عدم اليقين هو مبدأ أرساه عالم الفيزياء الألماني «فيرنر هايزنبرج» يتحدث عن وجود إلكترون يتصرف تصرفين مختلفين في نفس اللحظة، ونفس الحيز المكاني. هذا المبدأ يقول بوضوح أنه لا يوجد إجابات دقيقة بنسبة 100% حتى عن طريق المعادلات والحسابات الرياضية، فهناك دائمًا مساحة من الشك موجودة، حتى وإن كانت المعادلات صحيحة، لأنه _من وجهة نظر هايزنبرج_ لا تستطيع الإمساك بالألكترون في حالة ثابتة سواء في مكانه أو في سرعته.

فيرنر هايزنبرج

ما يقوله هايزنبرج قد قوبل من قِبل الكثير من علماء الفيزياء (من بينهم آينشتاين) باستهجان، لكن الفلاسفة لم يرون هذا الكلام على أنه كلام غير علمي أو غير حقيقي، فرائد الفلسفة الحديثة الفرنسي «رينيه ديكارت» قد قال كلامًا يشبه كثيرًا هذا الكلام قبله بحوالي 250 سنة، وأرسى القواعد العقلية في التفكير، وأن الشك هو أصل كل يقين، فكل مبدأ يصمد أمام الشك يمكن اعتباره حجر زاوية في البناء، وكل مبدأ يسقط أمام الشك فهو زائف. وهذا ما كان يحاول هايزنبرج قوله لكن عن طريق الفيزياء.

في النهاية يمكننا القول بأن الفيزياء في الأصل بدأت كأسئلة فلسفية عن كل شيء يخص الكون والطبيعة، وتطورت، عن طريق التجربة، إلى أن أصبحت علمًا مهمًا خاصًا بذاته. بمعنى أن الفيزياء تبدأ من حيث تنتهي الفلسفة، والعكس صحيح.


المصادر: scientificamerican  realclearscience  scientificamerican  theweek  utk  syr-res

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى